إرسال أموال عن طريق الخطأ وعدم ردها - أرشيفية
الأطروحات والمقترحات لازالت تنهال من هنا ومن هناك حول مسألة التكييف القانوني للإمتناع عن رد الأموال المحولة إلكترونياً "بالخطأ" عن طريق "انستا باي" أو المحفظة الإلكترونية، فمع تطور الحياة ودخولنا في عصر الذكاء الاصطناعي، والاعتماد شيئا فشئيا في قضاء حاجتنا اليومية على التطبيقات الإلكترونية وما تتطلبه السرعة التي أصبحت تتسم به الحياة اليومية من ضرورة انجاز تلك المعاملات اليومية في أقل وقت ممكن وبأقل جهد، ولا سيما في المعاملات المالية، فقد أدى ذلك الى ظهور العديد من التطبيقات الإلكترونية التي تسهل إتمام تلك المعاملات، وذلك عن طريق ما يسمى بـ"المحافظ الالكترونية".
والمحافظ الالكترونية يتم من خلالها تحويل وارسال الأموال واجراء المعاملات المالية بدون الذهاب الى مكان تلقي الخدمة مثل دفع الفواتير وسداد الأقساط أو حتى الشراء أون لاين، والمحفظة الرقمية أو كما تسمى في بعض الأحيان المحفظة الألكترونية هي عبارة عن تطبيق للمعاملات المالية يعمل على الأجهزة المتصلة بالإنترنت سواء كومبيوتر أو هاتف محمول، وتقوم تلك المحافظ بتخزين معلومات الدفع وكلمات المرور الخاصة بك بشكل آمن في السحابة الخاصة بها، والمحافظ الرقمية تسمح لك بإجراء عمليات الدفع أثناء التسوق مستخدماً الجهاز الخاص بك بحيث لا يلزمك حمل بطاقاتك المصرفية معك، وتدخل وتخزن معلومات بطاقة الخصم الخاصة بك أو بطاقتك الائتمانية أو حسابك المصرفي ويمكنك استخدام الجهاز الخاص بك للدفع عند القيام بالمشتريات.

التكييف القانوني للامتناع عن رد الأموال المحولة إلكترونياً "بالخطأ"
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على التكييف القانوني للامتناع عن رد الأموال المحولة إلكترونياً "بالخطأ" عن طريق انستا باي او المحفظة الالكترونية، حيث يثور في الآونة الأخيرة جدل قانوني دقيق حول واقعة متكررة: "قيام شخص بتحويل مبلغ مالي إلكترونياً "عبر تطبيقات مثل انستا-باي أو المحافظ البنكية" إلى حساب شخص آخر عن طريق الخطأ، وامتناع الأخير عن رد هذا المبلغ رغم علمه بالواقعة وإنذاره بالرد، فهل يشكل هذا الامتناع جريمة جنائية؟ أم أن النزاع يظل في إطاره المدني البحت؟ - بحسب الخبير القانوني والمحامى بالنقض مصطفى زكى.
في البداية – علينا أن نتطرق للآراء المتداولة، ونفند كل رأي، ونستعرض النصوص القانونية الحاكمة، لنخلص إلى الرأي الراجح كالتالى: - وفقا لـ"زكى":
أولاً: عرض الآراء القائلة بـ "التجريم" (المسار الجنائي)
يحاول هذا الاتجاه إخضاع الواقعة لنصوص جنائية قائمة، استناداً إلى أن الامتناع عن رد المال بنية تملكه هو فعل إجرامي، وتتعدد التكييفات المقترحة:
الرأي الأول: تكييف الواقعة كـ "سرقة"
السند القانوني: المادة (311) من قانون العقوبات: "كل من اختلس منقولاً مملوكاً لغيره فهو سارق".
منطق الرأي: يرى البعض أن المال "اختُلس" بمجرد دخول الحساب والامتناع عن رده، وأن المال الإلكتروني هو "مال منقول".
التفنيد (الرد على الرأي): هذا التكييف يصطدم بأركان جريمة السرقة.
ركن الاختلاس: الاختلاس هو "نزع" الحيازة أو انتزاع الشيء بغير رضاء مالكه، وفي حالتنا، المال لم يُنتزع، بل "وصل" إلى المستلم بفعل المحوِّل نفسه "وإن كان خطأً" المستلم كان سلبياً لحظة وقوع الفعل، ولم يقم بأي فعل "اختلاس" إيجابي.
انتقال الحيازة: تمت الحيازة برضاء "خاطئ" من المُرسل، وهو ما ينفي ركن الاختلاس.
الرأي الثاني: تكييف الواقعة كـ "خيانة أمانة"
السند القانوني: المادة (341) من قانون العقوبات: "كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة... وكانت الأشياء المذكورة لم تسلم له إلا على وجه الوديعة أو الإجارة أو على سبيل عارية الاستعمال أو الرهن أو كانت سلمت له بصفة كونه وكيلاً...".
التفنيد "الرد على الرأي": هذا التكييف غير سديد، لأن المادة 341 حصرت عقود الأمانة "وديعة، إيجار، وكالة.. إلخ"، والتحويل البنكي الخاطئ لا يمثل أياً من هذه العقود، فالمال لم يُسلَّم إلى المستلم بموجب "عقد ائتمان" محدد – هكذا يقول "زكى".
الرأي الثالث: تكييف الواقعة كـ "جريمة عثور على شيء مفقود"
السند القانوني: المادة "321 مكرراً" من قانون العقوبات: "كل من عثر على شيء أو حيوان فاقد ولم يرده إلى صاحبه... مع ثبوت نيته في تملكه...".
منطق الرأي: وهو اجتهاد يحاول تقريب الواقعة. يرى أن المال الذي وصل بالخطأ هو بمثابة "شيء عُثر عليه" في الحساب، وأن الامتناع عن رده هو "احتباس بنية التملك".
التفنيد (الرد على الرأي): هذا التكييف ينطوي على "توسع كبير" في تفسير النص الجنائي، وهو ما يخالف مبدأ التفسير الضيق للنصوص العقابية.
-المال المحول إلكترونياً ليس "شيئاً مادياً فاقداً" بالمعنى الذي قصده المشرع.
-المستلم لم "يعثر" (Find) على المال، بل "تلقاه" (Receive) في حسابه. المال لم يخرج من حيازة صاحبه "بالفقد المادي" بل بفعله هو.

ثانياً: الرأي القائل بـ "المدنية البحتة" (المسار المدني)
يرى هذا الاتجاه أن الواقعة برمتها هي نزاع مدني، لا ترقى لمصاف الجريمة الجنائية، لغياب النموذج الإجرامي الواضح.
السند القانوني: المادة (179) من القانون المدني (باب الإثراء بلا سبب): "كل من تسلم على سبيل الوفاء ما ليس مستحقاً له وجب عليه رده".
منطق الرأي: هذا هو التكييف القانوني السليم والأكثر انطباقاً.
الإثراء: المستلم "أثرى" بدخول المال في حسابه.
الافتقار: المحوِّل "افتقر" بخروج المال من حسابه.
انعدام السبب: هذا الإثراء حدث "بلا سبب قانوني" (لا عقد بيع، لا دين، لا هبة).
النتيجة: ينشأ في ذمة المستلم "التزام مدني" برد ما تسلمه بغير حق (وهو ما يُعرف بدعوى "استرداد ما دفع بغير حق")، وامتناعه عن الرد هو إخلال بهذا الالتزام المدني، وليس ارتكاباً لجريمة جنائية.

ثالثاً: نصوص المواد القانونية الحاكمة للجدل
(قانون العقوبات)
مادة 311 (السرقة): "كل من اختلس منقولاً مملوكاً لغيره فهو سارق".
مادة 341 (خيانة الأمانة): "كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ... أو غير ذلك إضراراً بمالكيها... وكانت الأشياء المذكورة لم تسلم له إلا على وجه الوديعة أو الإجارة...".
مادة 321 مكرراً (العثور على أشياء فاقدة): "كل من عثر على شيء أو حيوان فاقد ولم يرده إلى صاحبه متى تيسر له معرفته أو لم يسلمه إلى مقر الشرطة... يعاقب... إذا احتبسه بنية تملكه...".
(القانون المدني)
مادة 179 (دفع غير المستحق): "كل من تسلم على سبيل الوفاء ما ليس مستحقاً له وجب عليه رده".

الرأي الراجح وخلاصة القول:
ويضيف "زكى": بعد استعراض ما سبق، وفي ظل المبادئ القانونية الراسخة، نميل إلى ترجيح الرأي التالي:
-الرأي الراجح هو أن الواقعة، في ظل النصوص التشريعية الحالية، لا تشكل جريمة جنائية واضحة الأركان، وأنها تظل نزاعاً مدنياً يخضع لأحكام "الإثراء بلا سبب" وتحديداً "دفع غير المستحق" (المادة 179 مدني).
التأسيس على ذلك:
مبدأ الشرعية الجنائية: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، وتطبيق أي من نصوص التجريم القائمة (سرقة، خيانة أمانة، عثور على مفقود) على هذه الواقعة المستحدثة يمثل "ليّاً" لعنق النص، وتوسعاً في التفسير لا يجوز في المواد الجنائية.
الفراغ التشريعي: نحن أمام "فراغ تشريعي" حقيقي، والقوانين الحالية (سواء العقوبات أو حتى قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات) لم تعالج هذه الصورة تحديداً (الامتناع العمدي عن رد أموال إلكترونية وردت بالخطأ).
الطريق الأضمن: يبقى المسار المدني عبر رفع "دعوى استرداد ما دفع بغير حق" هو الطريق القانوني السليم والأضمن لاسترداد الحق، وإن كان أبطأ من المسار الجنائي.
خاتمة: تثمين النقاش ونداء للمشرع
وفى الأخير يقول "زكى": إن هذا الجدل القانوني الدائر هو ظاهرة صحية، تُثري الفكر القانوني وتكشف عن قصور النصوص القائمة أمام تطورات الواقع العملي والمعاملات الإلكترونية السريعة، حيث إن الحل الجذري لا يكمن في إرهاق النصوص القديمة بما لا تحتمله، بل يكمن في تدخل تشريعي عاجل بإضافة نص صريح يجرم "الامتناع العمدي عن رد الأموال المتلقاة إلكترونياً بطريق الخطأ، بعد العلم والإنذار بالرد"، وذلك لحماية حقوق المواطنين وسد هذا الفراغ الواضح.
