من بين الجرائم المستحدثة المرتكبة بواسطة الهواتف النقالة، جريمة الإيذاء المبهج التي مفادها أن يباشر شخص الاعتداء الجسدي أو الجنسي على المجني عليه ثم القيام بتسجيلها، ومن ثم بثها بغرض الإطلاع عليها والاستمتاع بها، عن طريق بث تلك الصور مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن طريق نشر الروابط الإلكترونية للمواقع التي تحوي صور الاعتداء عبر "نقرة زر" فقط حتى تتيح الإطلاع عليها عبر الشبكة ومواقع التواصل الاجتماعي.
فقد أصبح الاستغلال السلبي لتكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة آثار جمة بشكل واضح على العديد من المناحي المتعلقة بحياة الأشخاص، فبالرغم من استفادة الإنسان اليوم من هذا التطور، إلا أنه أصبح عرضة لجملة من المخاطر التي قد يدفع ثمنها من خصوصيته أو حياته الشخصية، خاصة مع ظهور أشكال مستحدثة للجريمة من بينها تلك التي ترتكب بواسطة الهواتف النقالة، حيث أصبحت هذه الأخيرة وسيلة اتصال تتيح للبعض التعدي على أعراض الناس وعلى حياتهم الشخصية دون أدنى اعتبار للنتائج التي قد تنجم عن هذا النوع من الأفعال.
"الإيذاء المبهج".. جريمة مستحدثة تصدت لها محكمة النقض الفرنسية
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على ظاهرة جديدة أُطلق عليها بجرائم "الإيذاء المبهج" التي تتجلى في تصوير الاعتداء المادي على شخص، بحيث يستوي أن يكون هذا الاعتداء جسديا أو جنسيا وأيا كانت جسامته، ثم تتجه نية الجاني في هذه الجريمة إلى نشر ما قام بتصويره وجعله مادة للتسلية والاستمتاع، ووتقوم جريمة الإيذاء المبهج شأنها شأن غيرها من الجرائم على أركان ثلاثة وهي: الشرعي، والمادي، والمعنوي، كما تتحقق المسؤولية الجنائية عنها بمجرد ارتكاب فعل الإيذاء وتصويره ثم بثه ليشاهده عموم الناس، كل ذلك من أجل الاستمتاع والتسلية على أحزان الآخرين – بحسب الدكتور يوسف الديب، الخبير القانوني.
في البداية - لقد رتبت التشريعات عقوبات جنائية مشددة في حق مرتكبي الإيذاء المبهج، وذلك نظرا لما تنطوي عليه هذه الجريمة من مظاهر الاستمتاع والتسلية في نفسية الجاني، مقابل مظاهر الإيذاء الجسدي والنفسي للضحية، ولقد أرست محكمة النقض الفرنسية مبدأ قضائياً صارماً في ما يعرف بظاهرة الإيذاء المبهج، تلك الممارسة المستحدثة التي تقوم على تصوير مشاهد الاعتداء والعنف وبثها على الملأ، في مشهد يجمع بين الجريمة والعرض الاستعراضي، فرغم أن المصور لا يباشر الاعتداء بيده، إلا أن القضاء الفرنسي اعتبر أن مجرد الإمساك بالكاميرا لتسجيل وقائع الاعتداء، مقرونا بالتعليقات المشجعة التي تقوي عزيمة الفاعلين الأصليين وتكشف عن انخراط واع في نيتهم الإجرامية، يرقى إلى مرتبة الشراكة الجنائية – وفقا لـ"الديب".
اعتبرت أن مجرد الإمساك بالكاميرا لتسجيل وقائع الاعتداء
فالتصوير – طبقا لمحكمة النقض الفرنسية - هنا ليس عملا سلبيا بريئا، بل هو صورة من صور المساعدة والتحريض التي نصت عليها المادة 121-7 من قانون العقوبات، إذ يتحول الفعل من مجرد رصد إلى مشاركة إيجابية تهيئ الأجواء وتضفي بعدا استعراضيا على الجريمة، مما يزيد من خطورتها ويضاعف أثرها الاجتماعي والنفسي، حتى وإن لم تخلّف عجزا جسديا لدى الضحية.
في القضية التي شغلت الرأي العام الفرنسي، كان المتهم "كوينتن X..." قاصرا عند ارتكاب الأفعال، واقتصر دوره على تصوير مشاهد الاعتداءات التي مارسها أقرانه ضد الضحية "فيكتور A..."، مقرونا بتعليقات لفظية مشجعة ومحفزة. وقد رأت محكمة الاستئناف في ريوم بتاريخ 22 يناير 2009 أن هذا السلوك يشكل مساهمة جنائية بطريق الشراكة، لأنه كشف عن انخراطه الواعي في نية الجناة وتقوية عزيمتهم، ومن ثم اعتبرته شريكا في جريمة العنف المشدد – الكلام لـ"الديب".
مقرونا بتعليقات مشجعة تقوي عزيمة الفاعلين الأصليين ترقى لمرتبة الشراكة الجنائية
وأمام محكمة النقض، دفع الدفاع بأن مجرد التصوير لا يعد وسيلة للمشاركة وفقا للمادة 121-7 من قانون العقوبات، غير أن المحكمة العليا، في حكمها الصادر بتاريخ 28 أكتوبر 2009 (الطعن رقم 09-81.057)، رفضت هذا الدفع وأكدت أن التصوير المصحوب بالتشجيع اللفظي يدخل في نطاق الشريك، ويعد مظهرا من مظاهر التواطؤ الجنائي. وبناء عليه، أيدت الحكم القاضي بمعاقبته بأربعين ساعة من العمل للنفع العام، مع إلزام والديه "هوبرت X..." و"فابيَن Y..." بالتعويضات المدنية تجاه الضحية، باعتبارهما مسؤولين مدنيا عن فعل القاصر – هكذا يقول "الديب".
وقد جاء هذا التوجه متسقا مع فلسفة العدالة الجنائية الفرنسية في قضايا الأحداث، حيث توازن بين مقتضيات الردع واعتبارات الإصلاح، فالمتهم كان قاصرا وقت الفعل، ولم يكن فاعلا أصليا بل شريكا بالمساعدة والتشجيع، كما أن الاعتداء لم يسفر عن عجز دائم لدى الضحية، لذلك آثرت المحكمة أن تجعل الأولوية للتدابير الإصلاحية والتأهيلية بدل العقوبات السالبة للحرية، مكتفية بفرض أربعين ساعة من العمل للنفع العام كعقوبة بديلة، تعزز إحساس الحدث بالمسؤولية الاجتماعية، وتؤكد في الوقت نفسه على جدية الردع.
إن حكم محكمة النقض الفرنسية في هذه القضية يمثل تكريسا واضحا لفلسفة جنائية صارمة وواقعية؛ فهو يوجه رسالة قوية مفادها أن المساهمة في الجريمة لا تنحصر في مباشرة الأفعال المادية للعنف، بل تمتد لتشمل كل دعم وتحريض يبعث الحياة في نية الفاعلين الأصليين ويقوي من عزيمتهم. وهكذا أضحى التصوير المشجع والتوثيق الاستعراضي ضربا من الشراكة الجنائية، وعنوانا لخطورة مضاعفة تتطلب تدخلا قضائيا يوازن بين الردع والإصلاح.
الدكتور يوسف الديب، الخبير القانوني والمحامى