من منا لم يقرأ سورة يوسف على أنها أحسن القصص – كما ورد عن النبى – ولكن كثير منا لم يتطرق للأسس العلمية التى سردتها تلك السورة من خلال تقويم أداء الانسان في خلافة الأرض وإدارة وتنظيم شؤونه ضمن قواعد مجتمعية عادلة، وعندما نتأمل الأيات من سورة يوسف عليه السلام نستنتج أن نبي الله يوسف قد طبق عدة مبادئ من مبادئ القانون الجنائي ومدى التزامه واحترامه للقانون رغم ما يتمتع به من منصب الرئيس التنفيذي الاعلى في البلاد.
فالمعلوم أن من المبادئ العامة لقانون العقوبات هو مبدأ الشرعية الجزائية "لا جريمة ولاعقوبة إلا بنص"، والمبدأ الأخر النطاق الشخصي لتطبيق قانون العقوبات وهذا المبدأ استثناء على المبدأ الأصل الذي يقضي بأن تطبق الدولة قانونها داخل اقليمها الخاضع لسيادتها، ولكن في ظروف ينص عليها القانون تطبق الدولة قانونها على بعض مواطنيها ولو كانوا في دولة أجنبية والحديث في هذا الموضوع كثير ولكن الذي يهمنا لدى التأمل في بعض آيات القران وعلى وجه التحديد في سورة يوسف يتبين لنا مدى احترام نبي الله يوسف عليه السلام والتزامه بمبادئ القانون.
سورة يوسف عليه السلام.. والقانون الجنائي
فى التقرير التالى، يلقى "برلمانى" الضوء على سورة يوسف عليه السلام، وعلاقتها بالقانون الجنائي، فسورة يوسف كريمة تتضمن مبادئ حاكمة لما استقرت عليها النظم القانونية الحديثة في قوانين الإجراءات الجنائية من مبادئ عليا تعكس الحرص على قيم العدالة الجنائية والشرعية الإجرائية وقيمة الدليل في الإثبات الجنائي وعلى مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية والعقوبة وعلى ترسيخ مبدأ سيادة القانون – بحسب الدكتور بشير سعد زغلول، أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة.
فى البداية - سنبدأ بما قد يُظن معه بحتمية الإدانة لتوافر الجريمة المُتلبّس بارتكابها، والحقيقة أنه لا حتمية على الاطلاق، وأنه يجب مناقشة الدليل حتى بشأن قيام حالة التلبس بالجريمة، وقد قصّت السورة الكريمة واقعة تعد نبراساً يهتدى به في مجال التحقيق الجنائي، وهي واقعة اتهام شقيق سيدنا يوسف واسمه "بنيامين" بالسرقة، بعدما نادى المنادي أيتها العير إنكم سارقون، وقام الحراس بتفتيش أخوة يوسف أجمعين حتى وجدوا صُواع الملك في متاع "بنيامين"، فظاهر الأمر يشير إلى ارتكاب "بنيامين" جريمة السرقة، والحقيقة الثابتة يقيناً أنه برئ من تهمة السرقة، لأن من وضع الصُواع في وعائه هم رجال سيدنا يوسف بناء على أمره، وكان قد فعل ذلك لغاية محددة سنوضحها ختاماً وهي ذات مغزى في دولة سيادة القانون – وفقا لـ"زغلول".
تضمنت قيم العدالة الجنائية.. والشرعية الإجرائية
ووجه الاستشهاد القانوني بهذا القصص القرآني الكريم يتصل بقيمة الدليل الجنائي في الإثبات وما يمكن أن يحوم حوله من شك مهما بدا للعيان ظاهرياً صحة الواقعة أو نسبتها إلى المتهم، ومن منطلق هذه الواقعة نُعلم طلابنا بكليات الحقوق والمتدربين الجُدد بأنه حتى مع توافر حالة التلبس لا مجال لإقامة المسؤولية الجنائية ومعاقبة المتهم دون إجراء تحقيق يتبين ظروف وملابسات الواقعة وإتاحة حق الدفاع بشأنها، فقد يكون التلبس مصنوعاً ومدسوساً على المتهم، وعلى أقل تقدير قد يفيد التحقيق في الوقوف على البواعث والملابسات التي يجب وضعها تحت بصر القاضي – هكذا يقول "زغلول".
أما عن قميص يوسف عليه السلام، فقد ورد في السورة الكريمة وفي مجال الإثبات الجنائي مرتين:
أولاهما: كدليل مزيف على اتهام الذئب بأنه أكل يوسف، وهي واقعة لو صار ادعاء نظيرتها الآن سيتكفل العلم الحديث بإثبات كذبها من خلال تحليل الدم والحامض النووي، بينما خصوصية نبي الله يعقوب وما يوحى إليه من الله جعلته يجزم بكذبها وأن أنفس أبنائه قد سولت لهم أمراً ما.
وثانيهما: كدليل على براءة يوسف من تهمة الاعتداء على امرأة العزيز، وقد تم تحقيق الواقعة من خلال ما يعرف في وقتنا الحالي بالمعاينة وبالخبرة الفنية والاستدلال العقلي والمنطقي الذي أشار بها أحد الشهود لحسم الجدل بين ادعاء امرأة العزيز ودفاع سيدنا يوسف.
ومبدأ شخصية المسؤولية الجنائية والعقوبة.. وترسيخ مبدأ سيادة القانون
وعندما طلب أخوة يوسف منه – عقب واقعة سرقة صُواع الملك - أن يأخذ أحدهم بدلاً من "بنيامين" لخشيتهم من أبيهم أو عليه من تكرار الفقد، يوسف ثم بنيامين، وفي الحالتين بسببهم، فإذا بالجواب الحاسم والقاطع على ترسيخ مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية والعقوبة يأتي على لسان يوسف عليه السلام " قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون"، فمساءلة ومعاقبة إنسان عن أفعال غيره ولو كانوا أخوته لهو الظلم والجور بعينه، فكل آتيه يوم القيامة فرداً – الكلام لـ"زغلول".
وأما عن سيادة القانون وعدم التحكم والاستبداد مهما امتلك الإنسان من نفوذ وسلطة وقوة، فإنها تتجلى في تلك الحيلة التي لجأ إليها يوسف عليه السلام، وهو العزيز والحاكم الذي يأتمر بأمره الجميع ويطيعون، والذي كان يملك – لو أراد - أن يحتجز شقيقه "بنيامين" دون إبداء أسباب، إلا أنه ونزولاً على حكم القانون لم يجد وسيلة قانونية يحتجز بها شقيقه لديه إلا اتهامه بالسرقة، وهي جريمة كانت عقوبتها وفقاً لشريعة قوم يعقوب أن يتم أسر السارق ليعمل في خدمة المسروق مدة من الزمن - طبقا لأستاذ القانون الجنائى.