الإثنين، 16 يونيو 2025 03:19 م

اختصاص استثنائى للمحكمة الجنائية.. كيف واجه القانون إفادة الورثة بالأموال المتحصلة من الجريمة حال وفاة المتهم قبل الحكم عليه؟.. المشرع سن المادة 208 مكررًا (د) إجراءات لفك طلاسم النزاع.. والنقض تتصدى للأزمة

اختصاص استثنائى للمحكمة الجنائية.. كيف واجه القانون إفادة الورثة بالأموال المتحصلة من الجريمة حال وفاة المتهم قبل الحكم عليه؟.. المشرع سن المادة 208 مكررًا (د) إجراءات لفك طلاسم النزاع.. والنقض تتصدى للأزمة رشوة - أرشيفية
الإثنين، 16 يونيو 2025 09:00 ص
كتب علاء رضوان

الأصل أن المشرع يبتغى فى كل ما يصدره من قوانين تحقيق تطلعات المجتمع، ويتعين عليه الإلتزام بتوافر ضمانات التوازن والفاعلية مع المصلحة العامة، فلا ينبغى أن يهدر ثوابت تشريعية قائمة أو يضحى بمرتكزات العمل الإجرائى وتنظيمه وتقييمه الموضوعى حتى لا يفقد وسائل مكافحة الفساد من قضايا رشوة أو كسب غير مشروع أو فساد مالى، أو إستيلاء على مال عام أو غيرها من قضايا الأموال .

 

ويُعدّ اختصاص المحاكم الجنائية بنظر الدعاوى الجنائية أصلًا قانونيًا راسخًا، فلا اختصاص لها في نظر الدعاوى المدنية إلا بصفة تبعية للدعوى الجنائية الأصلية، حيث يهدف هذا المبدأ إلى الفصل بين طبيعة الدعوى الجنائية التي تستهدف توقيع العقاب على الجاني، والدعوى المدنية التي تسعى لجبر الضرر الذي لحق بالمجني عليه.    

 

451688-451688-ط

 

كيف واجه القانون إفادة الورثة بالأموال المتحصلة من الجريمة حال وفاة المتهم قبل الحكم عليه؟

 

في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية اختصاص استثنائي للمحكمة الجنائية، وكيفية واجه القانون إفادة الورثة بالأموال المتحصلة من الجريمة حال وفاة المتهم قبل الحكم عليه، وفى الحقيقة نص المادة 208 مكررًا (د) إجراءات جنائية يتضمن استثناءين من القواعد العامة حيث ينشئ اختصاصًا جديدًا للمحكمة الجنائية بدعوى مدنية على أساس الإثراء بلا سبب لا على أساس المسئولية التقصيرية – بالنسبة لمن أفاد من الجريمة - فضلاً عن أنه يجعل الدعوى المدنية تقوم أمام المحكمة الجنائية غير تابعة لدعوى جنائية – بحسب الخبير القانوني والمحامى بالنقض صالح جمال عمار .

 

في البداية - إذا توفى المتهم بعد رفع الدعوى تستمر الإجراءات في مواجهة الورثة أو المستفيد أمام ذات المحكمة، أما إذا توفى قبل رفع الدعوى فإنها ترفع للحكم بالرد بعد الوفاة أمام المحكمة الجنائية المختصة أصلاً ولو أن الرد له طبيعة الجزاء المدني ولا يكون في الدعوى متهم بل ورثة أو مستفيدون – ذلك أن قانون الإجراءات الجنائية إنما يخاطب القضاء الجنائي دون غيره، وتتم إحالتها بمقتضى الإجراءات المعتادة أمام المحكمة المختصة نوعياً بالجريمة – وذلك ضد الورثة والموصي لهم ومن أفاد من الجريمة فائدة جدية – وفقا لـ"عمار". 

 

News-P-236463-635817249024818615

 

المادة 208 مكررًا (د) من قانون الإجراءات الجنائية

 

ومع ذلك، واستجابة لما أفرزه الواقع العملي من إشكالية تتمثل في افلات من أفاد بالجريمة الى وفاة المتهم قبل تحريك الدعوى الجنائية، أو خلال نظر الدعوى وقبل صدور حكم ضده، لذا تدخل المشرع المصري وأورد استثناءً جوهريًا على هذا الأصل في المادة 208 مكررًا (د) من قانون الإجراءات الجنائية، ليمنح المحكمة الجنائية صلاحية النظر في دعوى الرد ضد ورثة المتهم أو من استفاد من الجريمة، حتى لو توفي المتهم قبل رفع الدعوى الجنائية من الأساس – هكذا يقول "عمار".

 

سند الاختصاص الاستثنائي 

 

وتنص المادة 208 مكررًا (د) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه: "لا يحول انقضاء الدعوى الجنائية بالوفاة قبل أو بعد إحالتها إلى المحكمة دون قضائها بالرد في الجرائم المنصوص عليها... وعلى المحكمة أن تأمر بالرد في مواجهة الورثة والموصى لهم وكل من أفاد فائدة جدية من الجريمة ليكون الحكم بالرد نافذًا في أموال كل منهم بقدر ما استفاد" –الكلام لـ"عمار". 

 

جدس

 

يُمثل هذا النص التشريعي خروجًا صريحًا على القواعد العامة التي تنظم اختصاص المحاكم، إذ ينشئ آلية قانونية تضمن عدم إفلات من استفاد من الجريمة من مسؤولية رد ما حصل عليه، حتى مع انقضاء الدعوى الجنائية بوفاة المتهم، والهدف من هذا الاستثناء واضح: منع الإثراء غير المشروع الناتج عن الجرائم، وضمان استرداد الأموال المنهوبة أو المكتسبة بطرق غير قانونية – طبقا للخبير القانونى.

 

محكمة النقض تؤصل للاستثناء

 

هذا وقد سبق لمحكمة النقض التصدي لمثل هذه الإشكالية في الطعن المقيد برقم 5751 لسنة 88 قضائية، الصادر بجلسة 8 مارس 2021، والذى جاء في حيثياته: تطبيقا للنص المشار إليها سلفا فقد قضت محكمة النقض حكمة بأنه: "إذا توفى المتهم بعد رفع الدعوى تستمر الإجراءات في مواجهة الورثة أو المستفيد أمام ذات المحكمة، أما إذا توفى قبل رفع الدعوى فإنها ترفع للحكم بالرد بعد الوفاة أمام المحكمة الجنائية المختصة أصلًا ولو أن الرد له طبيعة الجزاء المدني ولا يكون في الدعوى متهم بل ورثة أو مستفيدون – ذلك أن قانون الإجراءات الجنائية إنما يخاطب القضاء الجنائي دون غيره، وتتم إحالتها بمقتضى الإجراءات المعتادة أمام المحكمة المختصة نوعيًا بالجريمة – وذلك ضد الورثة والموصي لهم ومن أفاد من الجريمة فائدة جدية، والنص هنا يتضمن استثناءين من القواعد العامة حيث ينشئ اختصاصًا جديدًا للمحكمة الجنائية بدعوى مدنية على أساس الإثراء بلا سبب لا على أساس المسئولية التقصيرية – بالنسبة لمن أفاد من الجريمة - فضلًا عن أنه يجعل الدعوى المدنية تقوم أمام المحكمة الجنائية غير تابعة لدعوى جنائية". 

 

نقض

 

خصائص الاستثناء  

 

ويُضيف "عمار": يُبرز هذا الحكم جوهر الاستثناء ويحدد خصائصه:

 

1- اختصاص أصيل للمحكمة الجنائية: تؤكد المحكمة احتفاظها بصلاحية نظر دعوى الرد، حتى في غياب المتهم الأصلي (لـوفاته)، وحتى لو كان الرد ذا طبيعة مدنية. 

 

2- الرد كأثر مدني مستقل: أوضح الحكم أن الرد ليس عقوبة جنائية، بل هو إجراء ذو طبيعة مدنية، يهدف إلى استرداد الأموال أو المنافع المتحصلة من الجريمة. 

 

3- رفع الدعوى ضد الورثة والمستفيدين: في حال وفاة المتهم قبل رفع الدعوى، ترفع الدعوى (لغرض الرد فقط) ضد الورثة والموصى لهم وكل من أفاد فائدة جدية من الجريمة. 

 

4- أساس الدعوى: الإثراء بلا سبب: شدّد الحكم على أن أساس هذه الدعوى المدنية أمام المحكمة الجنائية هو مبدأ الإثراء بلا سبب، وليس المسؤولية التقصيرية. يعني هذا أن المطالبة بالرد لا تعتمد على خطأ المدعى عليه، بل على استفادته غير المشروعة من الجريمة. 

 

5- دعوى مدنية غير تبعية: يمثل هذا الجانب أهم استثناء، حيث تصبح دعوى الرد قائمة بذاتها أمام المحكمة الجنائية، وغير تابعة لدعوى جنائية قائمة ضد المتهم الأصلي. 

 

نمك

 

أحكام قضائية أخرى تعزز هذا المبدأ

 

على الرغم من أن الحكم سالف الذكر هو أبرز الأحكام التي تتناول هذه المادة بشكل مباشر وتفصيلي، إلا أن مبدأ استمرارية تتبع الأموال المتحصلة من الجريمة حتى بعد وفاة المتهم يتجلى في بعض الأحكام الأخرى التي وإن لم تتناول المادة 208 مكرر (د) نصًا، إلا أنها تدعم فكرتها، فمحكمة النقض قد استقرت على أن المصادرة في الجرائم التي نص القانون على وجوبها، هي عقوبة عينية تلحق بالمال ذاته، وبالتالي فإن انقضاء الدعوى الجنائية بوفاة المتهم لا يحول دون الحكم بالمصادرة إذا كانت الأموال موجودة كأثر للجريمة ومحددة بذاتها - (راجع على سبيل المثال المادة 14 من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص على عدم منع انقضاء الدعوى الجنائية بوفاة المتهم من الحكم بالمصادرة في حالات معينة) - هذا يؤكد على المفهوم الأوسع لتتبع الأموال غير المشروعة، والذي تتجلى المادة 208 مكرر (د) كأحد أهم تطبيقاته وأكثرها توسعًا.

 

موقف الفقهاء وشراح القانون الجنائي

 

تتفق آراء الفقهاء وشراح القانون الجنائي الكبار على أهمية هذا الاستثناء، مع اختلاف طفيف في زوايا تناولهم له أبرزهم الدكتور أحمد فتحي سرور في مصنفه "الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية": والدكتور سرور، بصفته أحد أبرز فقهاء القانون الجنائي، يرى في هذا النص استثناءً ضروريًا لمواجهة ظاهرة تبييض الأموال والكسب غير المشروع، يوضح أن هذا النص يمثل تطورًا في التشريع الجنائي يهدف إلى سد الثغرات التي كانت تسمح للمستفيدين من الجريمة بالاحتفاظ بأموالها حال وفاة الجاني الأصلي، ويؤكد أن الطبيعة المدنية لدعوى الرد لا تمنع اختصاص القضاء الجنائي بها نظرًا لاتصالها الوثيق بالجريمة الأصلية، وكونها تهدف إلى تجريد الجريمة من آثارها الاقتصادية غير المشروعة، ويرى أن أساس هذه الدعوى هو الإثراء بلا سبب، حيث أن الورثة أو المستفيدين قد أثروا على حساب الغير "المجني عليه أو الدولة" نتيجة لفعل إجرامي، مما يوجب الرد – كما ورد على لسان "عمار". 

 

ةتن

 

الدكتور مأمون سلامة.. "الإجراءات الجنائية في التشريع المصري":

 

يتناول الدكتور سلامة هذا الاستثناء من منظور المحافظة على أموال الدولة وحقوق المجني عليهم. يشدد على أن وفاة المتهم يجب ألا تكون ذريعة لضياع الحقوق المالية الناشئة عن الجريمة، ويرى أن المشرع هنا قد أولى أولوية لمبدأ رد المكتسبات غير المشروعة، حتى لو تطلب الأمر تجاوز الأصل العام في اختصاص المحاكم. يوضح أن هذا التوسع في اختصاص المحكمة الجنائية جاء لمواجهة الحالات التي قد يخطط فيها المجرمون لوفاتهم أو انتحارهم لتفادي المساءلة المالية لأنفسهم ولورثتهم، مؤكدًا على أن الرد في هذه الحالة هو بمثابة إجراء وقائي ضد إفلات الأموال غير المشروعة من التتبع والاسترداد.

 

الدكتور محمود نجيب حسني.. "شرح قانون الإجراءات الجنائية":

 

الدكتور نجيب حسني، المعروف بتحليلاته العميقة والمفصلة، يشير إلى أن هذا الاستثناء يمثل أحد مظاهر "العدالة التصالحية" أو "العدالة الاستردادية" في القانون الجنائي الحديث، حيث لا يقتصر الأمر على مجرد توقيع العقاب، بل يتعداه إلى إعادة الوضع إلى ما كان عليه قدر الإمكان من الناحية المالية. يرى حسني أن النص يعكس فلسفة قانونية حديثة تسعى إلى تجفيف منابع الجريمة من خلال استعادة الأموال غير المشروعة، ويؤكد على أن هذا الاختصاص المستحدث للمحكمة الجنائية يتوافق مع الدور المتطور للعدالة الجنائية في مواجهة الجرائم الاقتصادية وغسل الأموال، حيث يكون الهدف الأساسي هو تتبع الأثر المالي للجريمة. 

 

خيؤر

 

دلالات وتأثير الاستثناء

 

يحمل هذا الاستثناء التشريعي والقضائي دلالات قانونية عميقة – بحسب "عمار":

 

1-مكافحة الكسب غير المشروع: يعزز هذا النص قدرة الدولة على التصدي للكسب غير المشروع، ويضمن عدم استفادة أي شخص من عائدات الجريمة، حتى لو توفي الجاني الأصلي.

 

2-حماية حقوق المجني عليهم: يوفر هذا الاستثناء للمجني عليهم آلية لاسترداد أموالهم أو حقوقهم التي سُلبت منهم بسبب الجريمة، دون أن يكون موت المتهم عائقًا أمام تحقيق العدالة.

 

3- توسيع لدور المحكمة الجنائية: على الرغم من أن الأصل هو اختصاص المحاكم المدنية بنظر الدعاوى المدنية، يوسع هذا الاستثناء من دور المحكمة الجنائية لتشمل جوانب مدنية محددة، مما يسهم في تحقيق العدالة بصورة أشمل.

 

4- تأكيد مبدأ عدم الإفلات من المسؤولية: يرسخ هذا المبدأ فكرة أن الجريمة لا يجب أن تعود بالنفع على مرتكبها أو على من استفاد منها، حتى بعد وفاته، وأن آثارها المالية يمكن تتبعها واستردادها. 

 

20220207043303333

 

الخلاصة:

 

وفى الأخير يقول "عمار": من خلال ما تقدم يتضح أن المادة 208 مكررًا (د) من قانون الإجراءات الجنائية، وما أكده الفقه وأحكام محكمة النقض بشأنها، تشكل تطورًا هامًا في تطبيق العدالة، إذ أنها تسد ثغرة قانونية كانت تسمح لأشخاص بالاحتفاظ بأموال أو منافع التي أفادوها من الحرائم، وذلك حال وفاة المتهم الأصلي قبل إقامة الدعوى الجنائية أو أثناء نظر الدعوى قبل صدور حكم جنائي ضده، وبهذا، يعزز هذا الاستثناء مبدأ سيادة القانون ويضمن عدم إفلات أي شخص من المسؤولية المالية المترتبة على الجريمة، سواء كان هو الجاني الأصلي أو مجرد مستفيد منها، ويشكل ضمانة هامة لاستيداء المال العام، وكذا أموال المجني عليهم.    

 

جدكن
 
320493-دديي
الخبير القانوني والمحامى بالنقض صالح جمال عمار
 

الأكثر قراءة



print