الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025 03:04 م

دور البيئة فى السلوك الإجرامى.. الجريمة نتاج عوامل خارجية لا تتعلق بشخصية الفرد المجرم بشكل رئيس.. وتتصل بالوسط الذى يعيش فيه.. ومن شأنها التأثير فى سلوكه وتوجيهه نحو اقترافها.. وخبير يُجيب عن الأسئلة الشائكة

دور البيئة فى السلوك الإجرامى.. الجريمة نتاج عوامل خارجية لا تتعلق بشخصية الفرد المجرم بشكل رئيس.. وتتصل بالوسط الذى يعيش فيه.. ومن شأنها التأثير فى سلوكه وتوجيهه نحو اقترافها.. وخبير يُجيب عن الأسئلة الشائكة محكمة - أرشيفية
الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025 12:00 م
كتب علاء رضوان

في الحقيقة تعد الجريمة ظاهرة اجتماعية يرتبط وجودها بصفة طبيعية ودائمة بوجود المجتمعات، فمتى وأين وجدت المجتمعات وجد الأفراد بمختلف رغباتهم، وأهوائهم وأهدافهم التي قد تتضارب وتتعارض أحياناً، مما يجعل البعض يرى في الاعتداء على الآخرين سبيلا لتحقيق أهدافه الخاصة، فالجريمة قديمة قدم الوجود الإنساني من لدن أدم، منذ أن قُتل هابيل على يد شقيقه قابيل بدافع الحسد والعدوان.

 

والخبراء والمراقبون يرى البعض منهم أن موضوع الجريمة بوصفها ظاهرة اجتماعية، على أنها من الممكن أن تكون نتاج لعوامل خارجية لا تتعلق بشخصية الفرد المجرم بشكل رئيس، وإنما تتصل بالوسط الذي يعيش فيه، ويكون من شأنها التأثير في سلوكه وتوجيهه نحو اقتراف الجريمة، وهذه العوامل الخارجية هناك من يصطلح على تسميتها بالعوامل البيئية ويراد بها تلك القوى والأوضاع والظروف التي تحيط بالفرد والتي تؤثر فيه مباشرة أو غير مباشرة.   

 

ططسس

 

دور البيئة في السلوك الإجرامي

 

في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على دور البيئة في السلوك الإجرامي، وذلك من خلال الإجابة على حزمة من الأسئلة أبرزها.. هل يمكن لمكان واحد أن يغيّر سلوك الإنسان؟ وهل تستطيع البيئة أن تفرض على الفرد إطارًا سلوكيًا أقوى من تأثير ثقافته أو خلفيته أو حتى قوانين بلده؟ وهل يمكن لمشهد بسيط يبدأ بنسيان بعض الأغراض وينتهي بالعثور عليها كما هي أن يكشف عن دور عميق للثقة الاجتماعية كقوة وقائية تمنع الانحراف قبل وقوعه؟ هذه الأسئلة لم تأتِ من تنظير مجرد، بل من واقعة يومية عادية حملت في عمقها دلالة غير عادية - بحسب أستاذ القانون الجنائى، والمحاضر المعتمد بدائرة القضاء بأبوظبي الدكتور أشرف نجيب الدريني ‏.

 

في البداية - كنت قد نسيت أشيائي في مكان عام، نسيانًا عفويًا كأي شخص ينشغل بالتفاصيل اليومية. المكان لم يكن مغلقًا ولا محكومًا بجماعة واحدة، بل يعبره أناس من جنسيات متعددة لا تجمعهم لغة ولا ثقافة واحدة، سوى أنهم يشتركون في فضاء اجتماعي واحد لبضع ساعات، وبعد ساعة أو ساعتين عدت لأجد الأشياء كما تركتها لم تلمس ولم تختفِ، وكأن يدًا غير مرئية حمتها، وحين سألت قيل لي إن هذا أمر طبيعي، وإن من يترك أغراضه قد يعود بعد يوم أو حتى أسبوع ليجدها كما هي، لم تكن هذه الإجابة مجرد ملاحظة عابرة، بل كانت شرارة سؤال أكبر: كيف تصنع البيئة سلوكًا مشتركًا رغم اختلاف البشر؟ - وفقا لـ"الدرينى".   

 

ضضض

 

الحكاية في سطور

 

في اليوم التالي لم يكن الأمر نسيانًا، بل أصبح عادة تلقائية، بدأت أترك أغراضي كما هي، وكأن هذا المكان العام قطعة من بيتي، لم أفعل ذلك بدافع ثقة شخصية في أفراد بعينهم، بل لأن المكان نفسه صنع داخلي شعورًا بأن ما يُترك فيه يبقى كما هو، شيئًا فشيئًا أدركت أن السلوك لا ينبع دائمًا من قناعة فردية، بل كثيرًا ما تفرضه البيئة بتماسكها وإيقاعها وإشاراتها الصامتة التي يلتقطها الجميع دون اتفاق – الكلام لـ"الدرينى".

 

في مكان تتعدد فيه الثقافات، كان من المتوقع أن يختلف السلوك. لكن العكس حدث: تلاشت الفوارق، واندمجت التصرفات في إيقاع واحد، وكأن الجميع خضعوا لقيمة مشتركة صارت جزءًا من هواء المكان: لا تلمس ما ليس لك، وهنا ظهر سؤال آخر: هل يمكن لقيمة واحدة غير معلنة أن تصبح أقوى من كل الاختلافات الفردية؟ يبدو أن البيئة حين تتسم بالثقة تخلق نموذجًا للسلوك يسري بقوة العدوى الإيجابية، فينتقل من فرد إلى آخر حتى يصبح قاعدة عامة دون حاجة لقانون مكتوب – كما يرى "الدرينى". 

 

ؤؤر

 

للسلوك بُعدًا جنائيًا لا يمكن تجاهله

 

هذا السلوك لم يكن مجرد التزام أخلاقي، بل كان انعكاسًا لفكرة أعمق تتعلق ببنية المجتمع نفسه؛ فالمكان لم يعلّم الناس الصواب والخطأ بالكلمات، بل صنع لهم تجربة عملية جعلت احترام ملكية الغير جزءًا من الحركة الطبيعية فيه، وهنا تتجلى الفلسفة الاجتماعية التي ترى أن الإنسان لا يتحرك كفرد مستقل، بل كمرآة تعكس طبيعة الفضاء الذي يعيش فيه، فالبيئة الجيدة تُهذّب دون أن تعظ، وتبني الوعي دون أن تفرض، وتخلق رقابة ذاتية أقوى من أي رقابة قانونية – هكذا يقول "الدرينى".

 

ولأن للسلوك بُعدًا جنائيًا لا يمكن تجاهله، يصبح هذا المشهد مثالًا واضحًا على دور البيئة في الوقاية من الجريمة، فالقانون يعاقب من يعتدي على ملكية الغير، لكنه لا يستطيع وحده أن يزرع داخل المجتمع شعورًا تلقائيًا بالاحترام. أما البيئة التي تنشر جوًا عامًا من الثقة فإنها تنزع من أصلها الدوافع الإجرامية، وتخلق مناخًا يجعل فكرة الاستيلاء على ما ليس لك فكرة غريبة على النفس، غير قابلة للتبرير، فالإنسان حين يتحرك في مكان يثق أهله ببعضهم، يشعر أن أي خروج عن هذا الاتفاق غير المكتوب يجرح شيئًا داخله قبل أن يخالف قانونًا خارجيًا – طبقا للخبير القانونى.   

 

ططس

 

البيئة تشكل سلوك الأفراد

 

ومع تكرار التجربة، اكتشفت أن البيئة لا تشكل سلوك الأفراد فحسب، بل توحدهم رغم اختلافهم، من جنسيات متباعدة وثقافات متنوعة وجماعات لا يعرف بعضها بعضًا، ومع ذلك يسلك كل فرد السلوك نفسه، لأن المكان صاغ قانونًا صامتًا صار الجميع جزءًا منه، كأن البيئة تقول لكل داخل إليها: هنا تُمارس الثقة كما تُمارس التنفس، وهنا يُحترم الغير دون أن يطلب، وهنا يصبح الصواب ليس مجرد خيار، بل إيقاعًا عامًا لا يُكسر.

 

اللافت أن هذه التجربة لم تجعلني أثق في المكان فقط، بل أعادت تشكيل تصوري عن العلاقة بين الإنسان والمجتمع، فقد فهمت أن السلوك الإيجابي لا ينشأ دائمًا من وعي فردي ناضج، بل كثيرًا ما يبدأ من تماسك بيئة اجتماعية قادرة على فرض ثقافتها دون أن تلوّح بعقاب أو مكافأة، وفهمت أن الثقة الاجتماعية ليست قيمة أخلاقية فقط، بل هي درع وقائي يحمي المجتمع من الانحراف قبل أن يولد، ويجعل القانون شريكًا للبيئة لا بديلًا عنها.   

 

11

 

هل يمكن لمكان واحد أن يغيّر الإنسان؟

 

وفي النهاية يقول "الدرينى": يعود السؤال الذي بدأ كل شيء: هل يمكن لمكان واحد أن يغيّر الإنسان؟ التجربة تجيب بوضوح  -نعم - البيئة القوية القادرة على بناء قيم مشتركة تستطيع أن تعيد تشكيل السلوك وأن تمنع الخطأ دون صخب، فهي لا تهذب الفرد فقط، بل تصنع منه جزءًا من منظومة أكبر، ومن هنا يصبح المكان ليس مجرد مساحة تُستخدم، بل قوة تربوية، وكيانًا اجتماعيًا، ودرعًا جنائيًا يحمي المجتمع بصمته قبل أن يفعل القانون بصوته.  

 

ششسي

 

 

الدرينى
 
أستاذ القانون الجنائى والمحاضر المعتمد بدائرة القضاء بأبوظبي الدكتور أشرف نجيب الدريني
 

 

 

موضوعات متعلقة :

النقض تحسم النزاع بمبدأين قضائيين.. وتُقرر: الحضور بتوكيل خاص أمام محكمة استئناف الجنايات عن المتهم في جناية "جائز".. والحيثيات تؤكد: المشرع قصر وضع تقرير التلخيص وتلاوته على محاكم الجنح المستأنفة دون غيرها

للملاك والمستأجرين.. الحق فى اللجوء إلى القاضى الطبيعى فى ضوء اختصاص قاضى الأمور الوقتية والأوامر على العرائض.. وضعه المشرع كطريق استثنائى لإضافة وسيلة وقتية سريعة تعزز مركز المالك.. وليس لإقصاء الدعوى الأصلية

حول "جريمة التنمر في مكان العمل" بين قانون العقوبات وقانون العمل الجديد.. 5 مرات تدخل المشرع للقضاء على الظاهرة.. وخبير: عدم التنسيق بين نصوص القوانين ساهم في إحداث "خلل".. وقانونى يؤكد: لا يوجد قصور تشريعي

حقوقك عند القبض عليك بقانون الإجراءات الجنائية.. ضوابط مشددة وأمر قضائي مسبب إلا فى التلبس.. أماكن محددة للاحتجاز والمشرع يرسم حدودا لا تتخطاها السلطة.. لا تعذيب ولا ترهيب.. ورقابة قضائية داخل مراكز الإصلاح


الأكثر قراءة



print