السبت، 15 نوفمبر 2025 03:41 م

التحولات الإجرامية بين "المواجهة" و"التحديات".. أصبحنا أمام "جريمة خوارزمية".. "النية" تُترجم بـ"ضغطة زر".. و"الامتناع" يُعبَّر عنه بـ"صمت إلكترونى عميق".. ومطلوب من "الفقه الجنائى" التعامل بمرونة

التحولات الإجرامية بين "المواجهة" و"التحديات".. أصبحنا أمام "جريمة خوارزمية".. "النية" تُترجم بـ"ضغطة زر".. و"الامتناع" يُعبَّر عنه بـ"صمت إلكترونى عميق".. ومطلوب من "الفقه الجنائى" التعامل بمرونة تحويلات مالية خاطئة - أرشيفية
السبت، 15 نوفمبر 2025 12:00 م
كتب علاء رضوان

في ضوء واقعة التحويل الإلكتروني الخاطئ التي تلقى فيها أحد الأشخاص مبلغًا ماليًا في حسابه دون وجه حق، ثم امتنع عن رده رغم علمه بخطأ التحويل، تتجلى أمامنا صورة جديدة من صور الجريمة التي تكشف عن ملامح التحول العميق في السلوك الإجرامي داخل العالم الرقمي. فهذه الواقعة، في حقيقتها، ليست مجرد خطأ مصرفي أو تقصير فردي، بل مؤشر مبكر على تغير في طبيعة الجريمة ذاتها، حيث أصبح الامتناع عن الفعل، في بيئة إلكترونية، يحمل ذات دلالة الفعل المادي في العالم الواقعي.

 

وفي ضوء ما تقدم، أرى أن هذه الواقعة لن تكون الأخيرة من نوعها، بل هي مجرد بداية لسلسلة من الوقائع التي ستكشف عن ثغرات قانونية متزايدة في عالم الجريمة الإلكترونية. فكلما اتسعت رقعة التعاملات الرقمية وتداخلت الأنظمة المصرفية والاقتصادية في فضاءات افتراضية، ظهرت صور جديدة من الجرائم التي لا تجد لنفسها موضعًا صريحًا في النصوص التقليدية، فأصبحنا أمام مرحلة انتقالية دقيقة، لم تعد فيها الجريمة حكرًا على الفعل المادي في العالم الواقعي، بل أصبحت تتجسد في العالم الافتراضي بخطوات غير مرئية، ومع ذلك لا تقل أثرًا أو خطرًا.   

 

2 تحويل

 

تحديات التحولات الإجرامية ما بين المواجهة والتحديات

 

في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على تحديات التحولات الإجرامية ما بين المواجهة والتحديات، خاصة أن ما حدث في هذه الواقعة ليس إلا إشارة مبكرة على أن القانون بصورته الحالية قد يواجه مستقبلاً تحديات أعقد، سواء في نطاق الجريمة الإلكترونية أو عند التطرق إلى ما يمكن تسميته بالجريمة الخوارزمية؛ أي تلك الأفعال التي ترتكب داخل بيئات ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والأنظمة الآلية في اتخاذ القرار، ففي الوقت الذي تتطور فيه التكنولوجيا بسرعة مذهلة، ما زال القانون يسير بخطوات محسوبة، متأنية، تخشى أن تسبقها النصوص فتقيد التطور، أو تتأخر عنها فتترك فراغًا يتسلل منه الخطر - بحسب أستاذ القانون الجنائى، والمحاضر المعتمد بدائرة القضاء بأبوظبي الدكتور أشرف نجيب الدريني ‏.

 

في البداية - الفقه الجنائي اليوم مدعوٌّ إلى أن يتعامل بمرونة فكرية وشجاعة علمية مع هذا التحول، وأن يتقبل انتقال الجريمة من العالم التقليدي إلى العالم الافتراضي دون أن يفقد جوهر العدالة، فالتحول الرقمي لم يلغِ القيم، بل أعاد تشكيلها في بيئة جديدة تستوجب أدوات فهم مختلفة، وما "السرقة الإلكترونية السلبية" إلا مثالٌ على ذلك التحول العميق، الذي يفرض على الفكر القانوني أن يُعيد صياغة مفاهيمه الكلاسيكية بما يتناسب مع واقعٍ باتت فيه النية تُترجم "بضغطة زر"، والامتناع يُعبَّر عنه بصمتٍ إلكترونيٍّ عميق – وفقا لـ"الدرينى".   

 

4 تحول

 

انتقال الجريمة من العالم التقليدي إلى العالم الافتراضي

 

بهذا المعنى، لا تمثل هذه الواقعة نهاية لجدلٍ فقهي، بل بداية لعصرٍ جديد من التفكير القانوني، يُمتحن فيه مدى قدرة النصوص على استيعاب العالم الرقمي المتغير، ومدى قدرة الفقه على أن يظل حيًا، نابضًا، ومواكبًا للزمن الذي يصنع الجريمة قبل أن يكتب عنها القانون، خاصة أن القانون - في نهاية المطاف- ليس جدارًا من المواد، بل كائنٌ حيٌّ يستمد وجوده من ضمير القاضي، ومن وعي الفقيه، ومن نبض المجتمع الذي يحتمي بعدالته، فإذا كان العالم الرقمي قد أبدع في ابتكار وسائل الجريمة، فإن على الفقه أن يُبدع في ابتكار سُبل العدالة، فتلك هي الرسالة الحقيقية التي تفرضها هذه الواقعة: أن القانون لا يموت ما دام فينا من يقرأه بعين العقل، ويشعره بقلب الإنسان – الكلام لـ"الدرينى".    

 

هل يمكن حقًا أن نواجه جرائم القرن الحادي والعشرين بعقلية القرن العشرين؟ هل يليق أن نُدرّس لطلاب القانون اليوم أن السرقة هي اختلاس مال منقول مادي، بينما تُرتكب حولهم جرائم تُحوّل فيها ملايين الدولارات من شاشة إلى أخرى دون أن تُفتح خزانة واحدة؟ وكيف نطالب القاضي بفهم الجريمة الإلكترونية وهو لم يتلق في دراسته الأولى سوى أحكام السرقة وخيانة الأمانة في صورتها التقليدية؟ أليس من المؤلم أن تبقى قاعات الدرس أسيرة مفاهيم تقليدية بينما الواقع يعيد تشكيل الجريمة بأدوات لم يكن أحد يتخيلها؟ - تلك التساؤلات لـ"الدرينى". 

 

5 تحول

 

أصبحنا أمام "جريمة خوارزمية"

 

ويُجيب: هذه الأسئلة ليست مجرد أفكار نظرية، بل نداء صادق لإعادة التفكير في بنية القانون نفسها. فالقانون التقليدي اليوم يواجه تحديًا وجوديًا أمام التحولات الإجرامية الرقمية. لم تعد الجريمة تترك أثرًا ماديًا، بل رقمًا، ولم تعد تعتمد على العنف، بل على الذكاء والاختراق والتلاعب بالأنظمة. ومع ذلك، ما زالت المناهج القانونية تُخرّج طلابًا يتعاملون مع السرقة وخيانة الأمانة كما لو أن الإنترنت لم يولد بعد. يدرسون المال المنقول ولا يعرفون المال الافتراضي، يدرسون التسليم المادي ولا يسمعون عن التحويل الإلكتروني، يعرفون البصمة الوراثية ولا يدركون قيمة البصمة الرقمية.  

 

كيف نطلب من الطالب أن يصوغ مذكرة قانونية محكمة بالعربية أو الإنجليزية وهو لم يدرس اللغة القانونية بوصفها علمًا قائمًا بذاته؟ وكيف ننتظر منه أن يفهم فلسفة الجريمة الرقمية وهو لم يدرس الطب الشرعي الرقمي أو الأدلة الإلكترونية؟ اللغة القانونية ليست وسيلة للتعبير فحسب، بل أداة للفهم وبناء العدالة. ولذلك، يجب أن تُدرّس اللغة العربية من قبل متخصصين بوصفها "لغة القانون" في صياغتها ودلالتها، وأن تُدرّس اللغة الإنجليزية القانونية على يد خبراء، لأن العالم أصبح يتحدث بلغة المعرفة، لا بلغة الحدود – هكذا يرى "الدرينى".   

 

8 تحول

 

"النية" تُترجم "بضغطة زر"

 

ولا يمكن إغفال أهمية تأهيل أعضاء هيئة التدريس أنفسهم على التقنيات الرقمية وأساليب التعليم القانوني الحديث، فالأستاذ الجامعي لم يعد ناقلًا للمعلومة فقط، بل صانعًا للوعي القانوني في عصر تتغير فيه الجريمة أسرع من الكتب، وعملية تطوير مناهج كليات الحقوق يجب أن تبدأ من داخل عقول أساتذتها، لأن الطالب يتعلم بقدر ما يرى أمامه نموذجًا حيًا للتجديد والفكر المتفاعل مع الواقع، فحين يتقن الأستاذ لغة التقنية ويستوعب أدوات التحليل الرقمي، يصبح قادرًا على تخريج جيل يفكر بعين الغد لا بعين الأمس.

 

وفي إطار تطوير المناهج، يمكن اقتراح مواد عملية وواقعية تتناسب مع بيئة كلية الحقوق، مثل القانون الجنائي الرقمي، الجرائم السيبرانية، التحقيق والطب الشرعي الرقمي، الأدلة الإلكترونية، الذكاء الاصطناعي والجريمة، حماية البيانات والخصوصية الرقمية، واستخدام التكنولوجيا في مكافحة الجريمة. هذه المقترحات  أدوات ضرورية لعقل قانوني يريد أن يواكب واقعًا جديدًا تجاوز الورق إلى الفضاء الرقمي. 

 

9 تحول

 

و"الامتناع" يُعبَّر عنه بـ"صمت إلكتروني عميق"  

 

لكن التعليم وحده لا يكفي. فالمسألة تتجاوز حدود القاعة الجامعية إلى عمق الفكر القانوني ذاته. نحتاج إلى فقه استشرافي يعيد للقانون روحه، حيث لا ينتظر الفقيه وقوع الجريمة ليحللها، بل يستبقها ويعيد صياغة المفاهيم قبل أن تتجاوزها الوقائع. الفقه هو بوصلة القانون وضميره الحي. ومن هنا تأتي ضرورة تطوير المفاهيم التقليدية مثل السرقة وخيانة الأمانة والنصب لتستوعب صور الجريمة الرقمية المعاصرة، حيث لم يعد المال مادة، بل قيمة رقمية تتحرك بسرعة الضوء، ولم تعد النية محصورة في الفعل، بل تمتد إلى الخوارزمية التي تنفذ الفعل ذاته.

 

أما التشريع، فلا بد أن يُصاغ على يد الفقهاء والخبراء المتخصصين، لا النواب وحدهم. القانون الجنائي لا يحتمل التسرع أو الارتجال، لأنه يمس الحريات والحقوق بدقة متناهية. بناء منظومة تشريعية معاصرة يتطلب لجانًا علمية تضم خبراء القانون والتقنية والطب الشرعي الرقمي، لوضع نصوص دقيقة تعرف الجرائم الإلكترونية وتحدد الأفعال المجرّمة والمسؤوليات القانونية عنها، والقوانين التي كُتبت في زمن الورق لم تعد صالحة لعصر الذكاء الاصطناعي. 

 

6 تحول

 

ويبقى القضاء الركيزة الأهم ميزان العدالة وروح القانون

 

ويبقى القضاء الركيزة الأهم، ميزان العدالة وروح القانون، فالقاضي اليوم ليس مجرد مطبق للنص، بل مفسر له في ضوء الواقع المتغير، ويجب أن يتلقى القاضي وأعضاء النيابة العامة تدريبًا مستمرًا في مجال الجرائم الرقمية والأدلة الإلكترونية، لأنهم يجسدون العدالة في لحظة التطبيق، والقاضي الواعي يقرأ النص بعين الواقع، فيجعل من القانون كائنًا حيًا نابضًا بالعدالة، لا ورقًا جامدًا محبوسًا في الكتب.  

 

1 تحول

 

10 تحول
 
أستاذ القانون الجنائى، والمحاضر المعتمد بدائرة القضاء بأبوظبي الدكتور أشرف نجيب الدريني ‏

موضوعات متعلقة :

يهم الملايين.. حالات يتحول فيها البيع إلى وصية كونه تصرفًا مضافًا لما بعد الموت.. ومتى يحق للشخص بيع ما يملك مع احتفاظه بحق المنفعة ولا يتحول هذا البيع لـ"وصية"؟.. 4 حلول وضعها المشرع للخروج من تلك الأزمة

بدائل الحبس الاحتياطي بعد تعديل المادة 114 من قانون الإجراءات الجنائية المصري.. قراءة مقارنة بالقانون الفرنسي.. الاعتراضات أدت لرفع البدائل من 3 لـ7.. والمشرع جعل الحرية هي الأصل والحبس هو الاستثناء المبرَّر

التكييف القانوني لواقعة استلام تحويل مالي بطريق الخطأ والامتناع عن رده.. "فراغ تشريعى" للجُرم يستلزم تدخل المشرع.. والأقرب يكون التكييف "إثراء بلا سبب".. و5 جرائم لا تنطبق على الواقعة.. ومقترح يتضمن 5 بنود

للمتضررات.. ما هو موقف القانون من تحايل الزوج أو المُطلق بالتصرف فى مسكن الحضانة بالبيع أو الايجار؟.. ومدى صحة هذا التصرف؟.. ومتى يكون باطلاً ومتى يكون صحيحاً؟.. المشرع أوقف التصرف ومنع تنفيذه متى توافر شرطان


الأكثر قراءة



print