قانون الاجراءات الجنائية الجديد
قانون الإجراءات الجنائية يقف عند قلب النظام القانوني لأي دولة حديثة، كجسر دقيق يربط بين حق الدولة في العقاب وحق الإنسان في حماية حرياته الأساسية، فهو ليس مجرد نصوص جامدة، بل يمثل خارطة متكاملة لتحقيق العدالة، تمنح الدولة القدرة على كشف الحقيقة ومعاقبة الجناة، وفي الوقت نفسه تحمي الفرد من أي مساس تعسفي بحرياته.
هذا التوازن لم يأتِ صدفة، بل عبر ضمانات قانونية صارمة نص عليها المشرع، فإذا لم تُحترم، تصبح كل الإجراءات القانونية باطلة، ولا يُعتد بما ترتب عليها من نتائج، ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن فلسفة القانون تحمي الشرفاء الذين توجهت إليهم أصابع الاتهام، وقد أشار الفقه المقارن — لا سيما الفقه الفرنسي والإيطالي — إلى هذا المعنى.

قانون الإجراءات الجنائية الجديد فصل جديد في العدالة الجنائية المصرية
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على قانون الإجراءات الجنائية الجديد رقم 174 لسنة 2025 بإعتباره فصل جديد في العدالة الجنائية المصرية، حيث يشهد النظام الإجرائي المصري اليوم تحولًا تشريعيًا غير مسبوق مع صدور قانون الإجراءات الجنائية رقم 174 لسنة 2025، المقرر بدء تطبيقه في أكتوبر 2026 لم يكن هذا القانون مجرد تحديث جزئي، بل إعادة تأسيس شاملة لمنظومة العدالة الجنائية بأكملها، مقدمًا فلسفات وآليات لم يعرفها التشريع المصري منذ أكثر من نصف قرن – بحسب أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض ياسر الأمير فاروق.
مرحلة فارقة في التشريع المصري
في البداية - لطالما كان قانون 1950 الإطار الحاكم للوعي الإجرائي، حيث تراكمت حوله الأحكام القضائية والتفسيرات الفقهية، حتى أصبح المرجعية الأساسية لكل قاضٍ وعضو نيابة ومحامٍ وباحث، ومع ذلك، كان هذا القانون محدود الأدوات، يعتمد على التفسير والشرح للنصوص القديمة دون بناء رؤية إجرائية حديثة – وفقا لـ"فاروق".
أما القانون الجديد، فقد نقل المنظومة من مرحلة التراكم إلى مرحلة التأسيس، ومن التفسير التقليدي إلى الابتكار القانوني، مقدمًا قواعد وآليات لم تعرفها مصر من قبل، مثل:
1-الصلح في جرائم القتل العمد كأداة لتحقيق العدالة والتخفيف من القسوة القانونية.
2-تنظيم أوامر المنع من السفر والإعلان الإلكتروني بما يتوافق مع التحول الرقمي.
3-حماية الأطفال والمجني عليهم المصابين باضطرابات عقلية أو نفسية لضمان تطبيق العدالة بطريقة تراعي ظروفهم الخاصة.
4-الحد من الأحكام الغيابية والسماح بالحضور بالوكالة في الجنايات والجنح.
5-تضييق نطاق المعارضة الاستئنافية لتعزيز استقرار الأحكام وتقليل التعقيدات.
6-تعزيز التعاون الدولي وحماية الشهود والمبلغين والمتهمين بما يواكب متطلبات العدالة في عصر العولمة.
7-إقرار التعويض عن الحبس الاحتياطي وإتاحة التحقيق والمحاكمة عن بُعد لتسهيل الوصول إلى العدالة.
8-تنظيم دور المدعي العام العسكري والنيابة العسكرية بما يعادل النائب العام والنيابة العامة لضمان توازن متكامل بين السلطات.
أهمية القانون المقارن: الفرنسية والإيطالية
ولا يمكن للفقه المصري أن يتقدم بمعزل عن التجارب الدولية، والاستعانة بالقانون المقارن، لا سيما الفرنسي والإيطالي، حيث تعد أداة أساسية لتطوير المنظومة الإجرائية، فالقانون الفرنسي يقدم نماذج متقدمة للضمانات الإجرائية وحقوق المتهمين، ويبرز آليات دقيقة لحماية الأطفال والشهود وإدارة التقاضي عن بعد، بينما القانون الإيطالي، فيقدم خبرة كبيرة من خلال مؤلفات الفقه الإيطالي البارز، مثل: المبادئ العامة للإجراءات الجنائية في إيطاليا مع التركيز على العلاقة بين القانون الموضوعي وعملية التقاضي – هكذا يقول "فاروق".
ملحوظة: الاستفادة من هذه التجارب لا تعني النسخ الأعمى، بل تحليلها وتكييفها بما يتوافق مع خصوصية التشريع المصري وظروفه الاجتماعية والثقافية والقانونية، ما يمنح القانون الجديد عمقًا وقدرة أكبر على تحقيق العدالة الفعلية.
الفقه المصري من النقل إلى البناء
مع كل هذه التحولات، يقف الفقه المصري أمام تحدٍ تاريخي: الانتقال من النقل والشرح إلى مرحلة البناء والابتكار، فالمرحلة الحالية ليست مجرد تطبيق للقانون، بل رحلة تأسيسية لبناء فقه جنائي حديث، يتطلب:
1-قراءة دقيقة للنصوص وفهم فلسفتها وروحها لضمان التوازن بين العدالة وحماية الحقوق.
2-رسم خريطة مفاهيمية لضبط مسار التطبيق القانوني وتوجيهه وفق المبادئ الحديثة.
3-تحليل مقاصد القانون وكشف آلياته لتوجيه القضاة والمحامين وعضو النيابة نحو ممارسات عادلة وفعالة.
4-الاستفادة من نماذج القانون المقارن الفرنسي والإيطالي لتطوير أدوات عملية مبتكرة، دون المساس بخصوصية التشريع المصري.
5-والهدف النهائي هو بناء فقه جنائي مصري حديث، قادر على استيعاب روح التشريع الجديد وصناعة معرفة قانونية رصينة تؤسس لممارسة أكثر عدالة وفاعلية ورشدًا في السنوات المقبلة.

وعلى الرافضين للقانون والمنتقدين لأحكامه أن يعودوا إلى دراسة مواده قراءةً وتحليلًا وتقييمًا معمّقًا، بدل الانسياق وراء الشائعات أو الارتهان للنقد الهدّام الذي لا يقدم رؤية ولا يطرح بديلاً. فإن لم يكن لديهم القدرة على الإحاطة بتعقيدات النصوص ومقاصدها، فليتركوا المجال لأهل العلم والمتخصصين ليبيّنوا لهم ما أشكل والتبس عليهم، فالقانون أصبح واقعًا نافذًا، والواجب العلمي والمهني يقتضي التعامل معه بمنهج نقدي رشيد يسهم في ترشيد التطبيق وتجويد الممارسة، لا في هدم ما استقرّ عليه التشريع – طبقا لأستاذ القانون الجنائى.
وفى الأخير يقول "فاروق": إن هذه المرحلة ليست مجرد شعارات ولا هدم، بل رحلة تأسيسية تقود مصر إلى مستقبل العدالة الجنائية بطريقة متقدمة، متوازنة، وإنسانية، حيث يصبح القانون أداة حقيقية لتحقيق العدالة، مدعومًا بخبرة النظم القانونية المتقدمة، ومستوعبًا لروح العصر ومتطلبات المجتمع.