التعداد الاقتصادى
يُشكل التعداد الاقتصادي السادس لعام 2023، الذي أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء نتائجه مؤخرًا، نقطة تحول في قراءة الاقتصاد المصري، ليس فقط لأنه أكبر عملية حصر اقتصادية في تاريخ الدولة تتم كل خمس سنوات، بل لأنه يقدم صورة دقيقة للحظة اقتصادية تشهد تحولات عميقة على مستوى الأنشطة، وسوق العمل، وتوزيع المنشآت، ودور القطاعين الرسمي وغير الرسمي من فترة لأخرى.
شمل التعداد الأخير، أكثر من 405 ألف منشأة، واعتمد للمرة الأولى على تقنيات متقدمة في جمع البيانات، ما جعله مرجعًا أساسيًا لصنّاع القرار والمستثمرين والباحثين.


يُعد التعداد الاقتصادي عملية حصر شاملة لجميع الأنشطة الاقتصادية داخل البلاد خلال عام مالي محدد، ويجمع بيانات تشمل: "عدد المشتغلين، الأجور، الإنتاج، القيمة المضافة، الأصول الثابتة"، وهي مؤشرات تعتمد عليها الحكومة في بناء خططها الاقتصادية والإقليمية، وقياس كفاءة القطاعات، وتحديد فجوات سوق العمل، وصياغة سياسات التحفيز الصناعي.
ومنذ أول تعداد تم تنفيذه في 1991/1992، تطوّرت المنهجية، وصولًا إلى التعداد السادس الأخير، الذى يعد الأكثر شمولًا وحداثة في تاريخ مصر.


أظهرت النتائج المعلنة حديثًا، أن عدد المنشآت الاقتصادية بلغ 3.9 مليون منشأة، موزعة على نحو يوضح استمرار ثقل القطاع العام في الاقتصاد، حيث أن 99.8% من المنشآت تتبع القطاع العام، و0.2% فقط تتبع القطاع الخاص، بينما بلغ عدد المشتغلين 15.2 مليون مشتغل، 93.9% منهم يعملون في القطاع العام، و6.1% بالقطاع الخاص.
وعلى مستوى الأداء الاقتصادي، بلغت القيمة الإجمالية للأجور، 744.2 مليار جنيه، بنسبة 80.2% للقطاع العام، فيما بلغت قيمة الإنتاج للمنشآت الاقتصادية، 8.9 تريليون جنيه، بنسبة 85% للقطاع العام، بينما بلغت القيمة المضافة الإجمالية، 5 تريليونات جنيه.
وبقراءة هذه الأرقام، يتضح استمرار سيطرة القطاع العام على الأنشطة الكبرى والبنية الأساسية، رغم توسع القطاع الخاص على مستوى العدد.


أحد أهم ما كشفه التعداد، أن القطاع الخاص – بقطاعيه الرسمى وغير الرسمى – يضم 3.9 مليون منشأة، منها 49.3% رسمي، و50.7% غير رسمي، كما يعمل في هذا القطاع 14.3 مليون مشتغل، منهم 72.7% رسمي، و27.3% غير رسمي، فيما تبلغ جملة إنتاج القطاع الخاص 7.6 تريليون جنيه، منها 92.3% للرسمي، ونحو 7.7% لغير الرسمي.
وهنا نرى اقتصادًا مزدوجًا، قطاع رسمي ينتج، وقطاع غير رسمي واسع من حيث العدد لكنه محدود الإنتاجية والقدرة على التوسع.
من ضمن الأرقام التى كشفتها نتائج التعداد الاقتصادى السادس، أن 80.7% من عمالة الاقتصاد غير الرسمي يتركزون في أنشطة منخفضة المهارة نسبيًا، في مقدمتها، تجارة الجملة والتجزئة بنسبة 51%، والصناعات التحويلية بنسبة 16.9%، علاوة على، خدمات الغذاء والإقامة بنسبة 6.6%، ومجال الزراعة وصيد الأسماك بنسبة 6.2%.
وهذا الأمر إن دل على شيء، فهو يدل على تركز الاقتصاد القائم على العمل الفردي، وغياب المهارات التقنية، وافتقار المنشآت إلى التنظيم والتطوير، إضافة إلى محدودية مشاركة النساء، حيث تبلغ نسبتهن 7.5% فقط من العاملين في القطاع الخاص "خارج المنشآت".


منذ تعداد 2018، وحتى التعداد الأخير 2023، ارتفع عدد المنشآت من 3.7 إلى 3.9 مليون منشأة خلال خمس سنوات، لكن الطفرة الحقيقية كانت في قطاعات بعينها، اُعتبرت القطاعات الأسرع نموًا، تمثلت في: قطاع التشييد والبناء، والذى بلغت نسبة نموه 186.4% بالمقارنة بين التعدادين "2018 و 2023"، وقطاع النقل والتخزين بنسبة نمو 171.4%، إضافة إلى، قطاع الخدمات بنمو بلغت نسبته 22.7%، وقطاع الأنشطة العلمية والتقنية بنسبة نمو 25.5%، أما العمالة فزادت من 13.5 إلى 15.2 مليون بنسبة ارتفاع 12.6% بين العامين المذكورين.
وبالبحث عن أسباب هذا النمو لتلك القطاعات المشار إليها، وجدنا أن موجة المشروعات القومية في السنوات الأخيرة هي التى عمّقت الطلب على شركات المقاولات الصغيرة، والعمالة اليومية، والنقل البري واللوجستيات، مما أدى لانتعاش قطاع التشييد والبناء، علاوة على، تحول الاقتصاد نحو الخدمات وزيادة الأنشطة الخدمية مقارنة بالإنتاجية الصناعية التقليدية، خاصة مع سهولة دخول السوق في التجارة والخدمات، فهذه الأنشطة لا تحتاج إلى رأس مال كبير ولا تراخيص معقدة، مما يجعلها الخيار الأول للمشروعات الصغيرة.
واشتملت النتائج التى كشفها التعداد الاقتصادى أيضًا، على القطاعات الأكثر جذبًا للعمالة، متمثلة في قطاع التجارة الذى اجتذب على مدار الفترة بين عامي 2018 و 2023، نحو 400 ألف عامل جديد، وقطاع النقل والتخزين مجتذبًا 182 ألف عامل، والأنشطة الإدارية التى اجتذبت 167 ألفًا، في المقابل، تراجعت قطاعات أخرى، جاء في مقدمتها، قطاع الكهرباء والغاز والذى تراجع بنسبة 19.1%، وقطاع الصناعات التحويلية بنسبة 0.5%.
وقد ترجع أسباب تراجع تلك القطاعات من الصناعات التحويلية إلى ضغط تكلفة الإنتاج وزيادة المنافسة مع السلع المستوردة.


كشف التعداد الاقتصادى في نتائجه أيضًا، عن خريطة انتشار المنشآت الاقتصادية في محافظات الجمهورية، فكان هناك ما يضم العدد الأكثر، ومحافظات أخرى زاد نموها اقتصاديًا، فبحسب نتائج التعداد، تمثلت المحافظات المحتضنة لأكبر عدد من المنشآت الاقتصادية، بالترتيب، كالتالى: "القاهرة بها 484.6 ألف منشأة، الجيزة بها 379.1 ألف منشأة، الدقهلية بها 301.8 ألف منشأة، الشرقية بها 284.5 ألف منشأة"، أما المحافظات الأسرع نموًا خلال الفترة ما بين عامي 2018 و2023، فكانت: "شمال سيناء بنسبة نمو 18.3%، الفيوم 17.1%، بورسعيد 15.2%، البحر الأحمر 14.2%، الغربية 12.8%".
تشير تلك الأرقام ونسب النمو، إلى أن ما تم تنفيذ من مشروعات للطرق والموانئ والمناطق اللوجيستية مؤخرًا مع عودة السياحة بقوة، ساهم في ارتفاع نسب النمو في تلك المحافظات، هذا بجانب انخفاض الكثافة السكانية بها مقارنة بالمحافظات التقليدية، لذا تعد محافظات البحر الأحمر، وسيناء، ومطروح من أكثر المناطق استفادة من هذه التحولات الاقتصادية.


وفقًا لنتائج التعداد الاقتصادى، تمثل المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر 48.5% من إجمالي المنشآت الاقتصادية، بواقع 1.9 مليون منشأة، وهو ما يجعل هذا النوع من الاقتصاد، المحرك الأكبر لخلق فرص العمل وقاعدة النشاط الاقتصادي والدعم الأولي للنمو الصناعي والتجاري، خاصة بعد ما أكدته نتائج التعداد من مؤشرات حول هذا القطاع، حيث كشفت النتائج، أن هناك 8.1 مليون مشتغل بذلك القطاع بنسبة 53.1% من عمالة القطاع الخاص، كما أن حجم إنتاجه يصل لنحو 1.8 تريليون جنيه بنسبة 20.5% من إجمالي الإنتاج القومي، مع تمركز 40.9% من العمالة به في محافظات: "القاهرة، الجيزة، الإسكندرية".
وإذا أشارت تلك الأرقام لشئ "حجم تمركز عمالة المشروعات المتوسطة والصغيرة في 3 محافظات فقط"، فهى تشير إلى وجود اختناق اقتصادي في مدن الوادي والدلتا الكبرى، مع ازدياد فرص النمو غير المستغلة بمحافظات الصعيد، وهو ما يؤكد على الحاجة الملحة لوضع حوافز ضريبية وتمويلية في المحافظات الأقل نموًا.
ومن ضمن ما رصده التعداد الاقتصادى السادس من أرقام مهمة، حجم العمالة خارج المنشآت، والتي كشفت عن وجود 7.5 مليون مشتغل خارج المنشآت، 92.5% منهم ذكور، كما تنتج هذه العمالة إنتاجًا بقيمة 127 مليار جنيه، منه 94 مليار جنيه قيمة مضافة.
هذا بجانب ما كشفته النتائج أيضًا في هذا الإطار، من نوعية الأنشطة الاقتصادية التى تستوعب وتجتذب تلك العمالة، حيث تمثلت الأنشطة، في: "التشييد والبناء والذى يستوعب 42.8% من إجمالي العمالة خارج المنشآت، ونشاط النقل والتخزين مستوعبًا 27.6%، ونشاط التجارة باستيعابه لـ 10.8%"، وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على اقتصاد يعتمد على العمل الفردي والموسمي، بعيدًا عن المظلة التنظيمية.


والآن، وبعد أن استعرضنا في الفقرات السابقة أبرز وأهم نتائج التعداد الاقتصادى السادس، يمكننا القول أن الاقتصاد المصرى يتوسع، ولكنه ما زال لا يصنع بما يكفى، فرغم زيادة المنشآت، إلا أن القطاعات الصناعية الأساسية لا تنمو بالسرعة الكافية، أيضًا هناك توسع جيد للتشغيل من خلال النمو المتزايد في قطاعات الخدمات والبناء والنقل، لكنه أقل أثرًا على القيمة المضافة ويحتاج لوقت طويل، كذلك القطاع غير الرسمي قوى في العدد، إلا إنه ضعيف في الإنتاجية، لذا أمر دمجه في الاقتصاد الرسمي بات ملحًا من خلال بعض الحلول، مثل التمويل المبسط، والترخيص المخفض، والضرائب التدريجية.
تظهر المؤشرات أيضًا التى رصدها التعداد حول أوضاع الاقتصاد المصرى وما حدث به خلال الفترة من 2018 حتى 2023، فجوة جغرافية واضحة، حيث تستحوذ 3 محافظات فقط على نحو 40% من العمالة الصغيرة والمتوسطة، بينما تحتاج محافظات الصعيد إلى حوافز مضاعفةـ هذا بجانب نقص العمالة الماهرة، وتركزها في قطاعات منخفضة المهارة، وهو ما يدل على ضعف التدريب الفني، وعدم مواكبة سوق العمل للتكنولوجيا، واعتماد الاقتصاد على العمل أكثر من رأس المال.
لذا أصبح من الضرورى العمل نحو اقتصاد أكثر إنتاجية وأفضل توزيعًا، وذلك من خلال روشتة الإنقاذ التى وضع الخبراء والمختصون تفاصيلها مرارًا وتكرارًا، وأولها تنفيذ خطة وطنية لدمج الاقتصاد غير الرسمي تدريجيًا، زيادة التصنيع المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات، توزيع جغرافي أفضل للفرص من خلال حوافز للصعيد والدلتا والحدود، دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة خصوصًا في الأنشطة الإنتاجية وليست التجارية فقط، تعزيز التدريب الفني وربطه بالقطاعات الأسرع نموًا مثل النقل واللوجستيات والتشييد والصناعات التحويلية.
ولكن بالرغم من السلبيات والفجوات التى لا يزال يعانى منها الاقتصاد المصرى، ويحتاج لسدها وتنفيذ حلولًا لها، إلا أن هذا لا يمنع دخول مصر على مدار السنوات الخمس الماضية مرحلة جديدة من التحولات الاقتصادية، اتسمت باتساع قاعدة المنشآت، وازدياد دور المشروعات الصغيرة، ونمو قوي في الأنشطة الخدمية والبنائية، فالاقتصاد المصرى – وفقًا لما كشفه التعداد الاقتصادى الأخير- اقتصاد متنوع، لكنه يحتاج إلى تخطيط أكثر دقة، وتنمية أكثر توازنًا نحو الصناعة والتكنولوجيا، وسياسات دمج وتشجيع للقطاع غير الرسمي لتحقيق نمو مستدام في السنوات المقبلة.
