لم يعد عالم المخدرات يقف عند حدود الأزقة المظلمة أو الصفقات السرية في أطراف المدن، اليوم، ومع التطور السريع للتكنولوجيا، قرر أباطرة الكيف دخول مرحلة جديدة كلياً، مرحلة تجعل الهواتف المحمولة منصة بيع، وتحوّل التطبيقات إلى أسواق سرية يستقبل فيها تجار السموم طلباتهم، ويتعرف العملاء على أنواع البضاعة كما لو كانوا يتصفحون قائمة إلكترونية لأي متجر رقمي.
كانت هذه البداية التي كشفت عنها التحريات، حين ظهر أن بعض شبكات الاتجار بالمخدرات استغلت أدوات العصر الرقمي لتوسيع نشاطها، فاختفت خلف تطبيقات مشفرة وجروبات مغلقة لا يدخلها سوى من يحصل على الثقة، أو كما يرددون بينهم: كلمة السر.
تطبيقات على الهواتف وجروبات لا يدخلها الغرباء
في التفاصيل، لجأ أفراد تشكيل عصابي خطير إلى إنشاء تطبيق خاص بهم على الهواتف المحمولة، يعرضون فيه أنواع المخدرات في جدول يشبه قوائم التسوق، تتضمن الأسعار، الكميات، والتقييمات التي يكتبها العملاء بعد التجربة.
كانت طريقة مبتكرة في عالم الجريمة، وتخفّي خلف واجهات إلكترونية يصعب تتبعها.
التطبيق لم يكن هو الوسيلة الوحيدة. فقد أنشأت العصابة مجموعات سرية على منصات التواصل والتطبيقات المشفرة، تجمع تجار التجزئة في عدة محافظات.
دخول هذه المجموعات كان يتم فقط عبر وسيط، ولا يسمح بظهور أي عضو جديد إلا بعد ترشيحه من أحد التجار القدامى. كل شيء محسوب، وكل حركة مدروسة بعناية.
خيط التحريات يبدأ من تطبيق غامض
قطاع مكافحة المخدرات والأسلحة والذخائر غير المرخصة تلقى معلومات مؤكدة حول استخدام أحد العناصر الإجرامية لتقنية مستحدثة في ترويج المواد المخدرة.
التحريات أثبتت أن هذا العنصر، وهو جزء من تشكيل عصابي شديد الخطورة، يدير نشاطه بالكامل عبر تطبيق إلكتروني، كان يعرض أنواع المخدرات داخل التطبيق كما لو كان يدير متجراً رقمياً، ويحدّد الأسعار، ثم يرسل إلى عملائه تعليمات دقيقة حول أماكن الاستلام التي يختارها هو فقط، لتفادي أي رقابة أو تتبع.
ولم يكن يعمل وحده. فقد كشفت التحريات أيضاً أن ثلاثة عناصر جنائية خطرة أخرى تشارك في التشكيل نفسه، إذ يتولون شراء المخدرات بكميات ضخمة، ثم يجلبونها إلى القاهرة والقليوبية حيث يتخذون مقرين في منطقتي حدائق القبة والخصوص لتخزين المواد المخدرة وإعادة تدويرها وتجهيزها للبيع.
ساعة الصفر.. مداهمة تُسدل الستار على الإمبراطورية الرقمية
بعد اكتمال الصورة، باشرت وزارة الداخلية تنفيذ خطة الضبط، تم تقنين الإجراءات وتحديد مواقع المتهمين بدقة، ثم أعدّت الأجهزة الأمنية عدة أكمنة في نطاق محافظتي القاهرة والقليوبية، إلى أن حانت لحظة المداهمة.
النتيجة كانت واحدة من أكبر الضبطيات خلال الفترة الأخيرة، فقد تم ضبط قرابة 65 كيلو جراماً من المواد المخدرة المتنوعة، شملت الهيدرو والشادو والبودر والكوكايين، بالإضافة إلى أكثر من 3 آلاف قرص مخدر، وعدد من الأمبولات المخدرة، وكميات كبيرة من الأدوات والخامات المستخدمة في إعادة تدوير المخدرات. كما وُجد بحوزتهم ثلاث طبنجات، وسيارتان، ودراجة نارية يستخدمونها في توصيل السموم إلى العملاء.
القيمة المالية لهذه المضبوطات قُدرت بنحو 21 مليون جنيه، في ضربة قاصمة لشبكة كانت تسعى لتحويل تجارة المخدرات إلى سوق إلكتروني يهدد المجتمع.
خبراء أمنيون يشيدون بالعملية
حظيت العملية بإشادة واسعة من خبراء أمنيين أكدوا أن مواجهة مثل هذه الأنماط الجديدة من الجريمة تحتاج إلى يقظة عالية وتطوير مستمر لأساليب العمل الأمني.
اللواء خالد الشاذلي، الخبير الأمني، أشاد بقدرة وزارة الداخلية على مواكبة التطور الرقمي، مؤكداً أن "العصابات تحاول دائماً استغلال التكنولوجيا للهروب من الرقابة، لكن الأجهزة الأمنية أثبتت جاهزيتها للرد المناسب في الوقت المناسب".
بينما أكد اللواء رأفت الشرقاوي، الخبير الأمني، أن "الضبطية الأخيرة تمثل رسالة واضحة بأن الأمن المصري يتعامل بحرفية مع الجرائم الإلكترونية المرتبطة بالاتجار غير المشروع، وأن فكرة اللجوء للتطبيقات المشفرة لن تشكل حماية للعصابات مهما حاولت".
العقوبات المنتظرة
وفقاً لقانون مكافحة المخدرات رقم 182 لسنة 1960 وتعديلاته، فإن الاتجار في المواد المخدرة أو الشروع في الاتجار يعاقب بالسجن المشدد، وقد تصل العقوبة إلى الإعدام إذا ارتبطت الجريمة بتشكيل عصابي أو تم استخدام أسلحة نارية أثناء التنفيذ.
كما تنص القوانين على مصادرة المضبوطات والأموال والأسلحة والسيارات المستخدمة في الجريمة، ومضاعفة العقوبات حال ثبوت الاتجار في مواد شديدة الخطورة مثل الهيروين والكوكايين.
وفي هذه القضية، وبالنظر إلى حجم المضبوطات، وتنوع المواد المخدرة، ووجود تشكيل عصابي منظم، واستخدام وسائل تقنية حديثة للتخفّي، فإن المتهمين يواجهون عقوبات قد تصل إلى السجن المؤبد أو الإعدام، وفقاً لتقدير المحكمة وحجم الأدلة.
جريمة تتطور وأمن لا يتوقف
لم تكن هذه الضبطية مجرد كشف عصابة مخدرات، بل كانت إعلاناً واضحاً بأن سوق الكيف مهما تطور، ستظل الأجهزة الأمنية قادرة على الوصول إلى جذوره.
وفي عصر الذكاء الاصطناعي، يبدو أن الحرب على المخدرات دخلت مرحلة جديدة، مرحلة يكون فيها التحدي أكبر، والمواجهة أكثر تعقيداً، لكن النتيجة تبقى واحدة: حماية المجتمع.
تم اتخاذ الإجراءات القانونية، وما زالت التحقيقات مستمرة.