الجمعة، 14 نوفمبر 2025 07:24 م

هل المصريون القدماء كانوا مشركين؟.. وزارة الأوقاف ترد: وصف المصريين القدماء جميعا بالشرك تعميم غير دقيق.. وُجد فى مصر القديمة دعاة إلى التوحيد ومؤمنون بالله.. وشهدت بعض عصورها نزعات توحيدية واضحة كعصر إخناتون

هل المصريون القدماء كانوا مشركين؟.. وزارة الأوقاف ترد: وصف المصريين القدماء جميعا بالشرك تعميم غير دقيق.. وُجد فى مصر القديمة دعاة إلى التوحيد ومؤمنون بالله.. وشهدت بعض عصورها نزعات توحيدية واضحة كعصر إخناتون وزارة الأوقاف
الجمعة، 14 نوفمبر 2025 11:00 ص
كتب لؤى على
- مصر لم تكن دار وثنية مطلقة بل عرفت دعوات إلى عبادة الإله الواحد منذ أقدم العصور
 
أكدت وزارة الأوقاف فى تقرير لها، أن تاريخ المصريين القدماء أثار تساؤلات عديدة حول حقيقة عقيدتهم، هل كانوا مشركين يعبدون الأصنام، أم عرفوا التوحيد وعبدوا الإله الواحد منذ القدم؟ وسوف نتناول هذه التساؤلات ومناقشة هذه القضية من منظور دينى وتاريخى، من جذور الفكرة، وموقف النصوص، والشواهد العلمية وآراء العلماء منها.
 
الرد على الدعوى العدائية للمصريين القدماء وكشف أصل فكرة شركهم بالكلية
ابتداءً فكرة كفر المصريين القدماء بإطلاق من الواضح أنها فكرة عدائية للحضارة المصرية القديمة عن قصد من البعض الذين يحملون توجها عدائيًّا لما هو مصرى الهوية، وخاصة إن كان هذا الشيء فيه تمجيد وإجلال لهذا الوطن والشعب العريق؛ حيث زعم البعض من هؤلاء الذين لا خلاق لهم- زورًا وبهتانًا- أنَّ أهل مصر كانوا وثنيين، ولم يعرفوا التوحيد إلا بعد رسالة سيدنا موسى عليه السلام.
 
ولا خلاف بين العلماء أن المصريين القدماء كانوا كبقية شعوب الدنيا منهم المؤمن ومنهم غير المؤمن، ووصْفُ المصريين القدماء بأنهم كانوا وثنيين أو مشركين أو كانوا يَعبُدون من دون الله تعالى بإطلاق وتعميم، ونحو ذلك جهالة عظيمة؛ بل عَرَفَتْ مصر التوحيد الخالص لله الواحد القهار منذ العصر الحجرى الذى يبدأ من 6000 سنة إلى 5000 سنة قبل الميلاد.
 
نصوص وشواهد تاريخية على وجود التوحيد فى مصر القديمة
 
وإليك بعض الأدلة على ذلك باختصار شديد:
أولًا: ثبت بالأدلة القاطعة نزول جملة عظيمة من الأنبياء إلى مصر المباركة
وأنهم دعوا أهلها إلى التوحيد، ومن هؤلاء سيدنا شيث بن سيدنا آدم، ثم إدريس وإبراهيم ويوسف ثم أبيه وإخوته الأسباط الاثنا عشر، وأيوب وذو القرنين، والخضر ولقمان، عليهم جميعًا سلام الله. وقد أقيمت حضارات فى زمانهم ودعوتهم إلى التوحيد قائمة.
 
ووجود الأنبياء فى مصر دليل على وجود التوحيد فى كل فترة من الزمان، وجَحْدُ ذلك جَحْدٌ لنصوص قاطعة تخبرنا: {وَإِن مِّنۡ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٞ} [فاطر: ٢٤] وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولٞۖ} [يونس: ٤٧] فكيف يزعمون أن حضارة ضربت فى أعماق التاريخ لآلاف السنين أنهم كانوا على الشرك والكفر دون بشير ونذير لآلاف السنين.
 
ثانيًا: عدد الأنبياء عليهم السلام وحظ أرض الكنانة مصر من هذا النور
يقول الله تعالى: {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ } [غافر: ٧٨]، فقد ورد ذكر ثمانية عشر نبيًا ورسولا فى موضع واحد من القرآن فى سورة الأنعام، فى قوله تعالى: {وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ * وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِى ٱلۡمُحۡسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ * وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ}. [الأنعام: ٨٣-٨٦].
 
ويبقى بعدهم سبعة؛ وهم آدم، وإدريس، وهود، وصالح، وذو الكفل، وختاما بسيد الخلق صلوات ربى وسلامه عليهم أجمعين.
 
وعددهم فى الإجمال بدون تفصيل جاء فى حديث عند الإمام أحمد، وابن حبان، واختلف فى صحته، كما ذكر ابن كثير، وابن الجوزى عن رواية ابن حبان، وهذه رواية الإمام أحمد رحمه الله: عَنْ أَبِى ذَرٍّ رَضى الله عَنْهُ قَالَ:... قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ وَفَّى عِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا». [الإمام أحمد فى المسند: ٢٢٢٨٨].
 
وهذه رواية ابن حبان عن أبى ذَرٍّ رَضى الله عَنْهُ قَالَ:... قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟، قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ؟، قَالَ: «ثَلَاثُ مِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ كَانَ أَوَّلُهُمْ؟، قَالَ: «آدَمُ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَبِى مُرْسَلٌ؟، قَالَ: «نَعَمْ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قِبَلًا» ثُمَّ، قَالَ: « يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ، وَشِيثُ، وَأَخْنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَنُوحٌ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ، وَشُعَيْبٌ، وَصَالِحٌ، وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». [ابن حبان بترتيب ابن بلبان: ٣٦١].
 
وذكر وهب، عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: أوّل المرسلين آدم، وآخرهم سيدنا محمد- صلّى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين - وكانت الأنبياء مائة ألف، وأربعة وعشرين ألف نبى، الرّسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر رسولا ويقال: ثلاثة عشر رسولا، منهم: خمسة عبرانيون، وهم: آدم، وشيث، وإدريس، ونوح، وإبراهيم وخمسة من العرب، وهم: هود، وصالح، وإسماعيل، وشعيب، ومحمد، وأوّل أنبياء بنى إسرائيل: موسى. وآخرهم: عيسى، عليهما السلام.
 
وكان لمصر الكنانة نصيبٌ وافرٌ من نور النبوّة، فهى أقدمُ دولِ التاريخ وأرسخُها حضارةً، ولا ريب أن لها حظًّا من الأنبياءِ الذين أرسلهم الله فى الأزمنة والدهور: يقول الله تعالى فى شأن موسى عليه السلام: {وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} [يونس: ٨٧]، ويقول جل شأنه فى شأن نبى الله يوسف عليه السلام: {وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦٓ أَكۡرِمِى مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗاۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} [يوسف: ٢١]، ويقول تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰٓ إِلَيۡهِ أَبَوَيۡهِ وَقَالَ ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ} [يوسف: ٢١]، ويقول الله تعالى مخبرا عن تفاخر فرعون بملكه لمصر: {وَنَادَىٰ فِرۡعَوۡنُ فِى قَوۡمِهِۦ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَيۡسَ لِى مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَٰرُ تَجۡرِى مِن تَحۡتِيٓۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ} [الزخرف: ٥١].
 
وقد ذكر الشريف الحسينى الإدريسى فى باب منفرد من كتابه "أَنوار عُلْوِى الأَجْرَام فِى الكَشْفِ عَن أَسْرارِ الأَهْرَام" الأنبياء الذين أتو إلى أرض الكنانة مصر فقال: ذِكر من ألم بها من الأنبياء صلوات الله عليهم واجتاز، وانضم إلى حيزها فى مسيره واحتاز؛ وهم: إدريس، وابراهيم الخليل، ويعقوب، ويوسف الصدِّيق، وأيوب بن موص، وموسى الكليم، وأخوه هارون، وفتاه يُوشَع بن النون، وكالب بن يوفنَّا، وإرمِيا ابن حلقيا، فجميع من ذكرناه من هؤلاء النبيين صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين، سعت أقدامهم الحميدة المساعى فى بطحائها، وجالت نواظرهم البعيدة المرائى فى أرجائها، وكانت مدينة الملك حينئذ بمصر مدينة منف،..." ثم ساق بإسناده أثرا فقال فيه: "عن عمر بن محمد بن يوسف الكندى، فذكر الأهرام وقال: ويقال إنها قبرا هرمس وأغاثيمون، والصابئة تحجهما من حران، وقال: وأنا لقيت من الصابئة من حجها.
 
وقال أبو جعفر الطبرى فى قوله تعالى: {وَنَجَّيۡنَٰهُ وَلُوطًا إلى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِى بَٰرَكۡنَا فِيهَا لِلۡعَٰلَمِينَ} [الأنبياء: ٧١]، "عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مُهَاجِرًا إلى رَبِّهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ لُوطٌ مُهَاجِرًا، وَتَزَوَّجَ سَارَةَ ابْنَةَ عَمِّهِ، فَخَرَجَ بِهَا مَعَهُ يَلْتَمِسُ الْفِرَارَ بِدِينِهِ , وَالْأَمَانَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، حَتَّى نَزَلَ حَرَّانَ، فَمَكَثَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إلى الشَّامِ".
 
وقال ابن عدي: ذِكْرُ هِجْرَةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ: ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ أَجْمَعُوا عَلَى فِرَاقِ قَوْمِهِمْ، فَخَرَجَ مُهَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ وَبِهَا فِرْعَوْنُ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ.
 
ودخلها فى ليلة المعراج سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلّم-، وقد ورد حديث فى ذكر طور سيناء، وإن كان فى سنده مقال لكننا نعتقد بما جاء به، فجاء عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ خَطْوُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا، فَرَكِبْتُ وَمَعِى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسِرْتُ فَقَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ فَفَعَلْتُ. فَقَالَ: أَتَدْرِى أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ فَصَلَّيْتُ، فَقَالَ: أَتَدْرِى أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،...».
 
إذًا الحاصل أن هذا العدد من الأنبياء قد دخلوا مصر وهم فقط من العدد القليل المعروف لنا ومن اليقين أن عدد الأنبياء والمرسلين كثير جدًا فبكل تأكيد كان لمصر عبر الأزمنة نصيب من هؤلاء الأنبياء والمرسلين لأنها دولة قائمة منذ آلاف السنين ولأن القرآن الكريم قرر هذا المبدأ القرآنى بل وكرره كثيرًا فى قوله تعالى {وَإِن مِّنۡ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٞ } [فاطر: ٢٤].
 
شهادة العلماء والمفكرين بسبق المصريين إلى التوحيد
ولذا قال العلماء: "إِن أول من ملك مصر بعد الطوفان بيصر بن حام بن نوح، ونزل مدينة منف هو وثلاثون من ولده وأهله، ثم ملكها بعده ابنه مصر بن بيصر وهو الذى دعا له نوح صلوات الله عليه بما دعا له، وسميت البلاد به، لامتداد عمره وطول مدة ملكه، ثم ملك بعده ابنه قفط بن مصر، ثم ملك بعده أخوه أتريب بن مصر، وأتريب المذكور هو الذى بنى مدينة عين شمس وبها الآثار العظيمة إلى الآن".
 
فهذه الآثار العظيمة الموجودة إلى الآن كما أخبر المؤرخون هى أثر طيب لمؤمنين صالحين من نسل سيدنا نوح عليه السلام عاشوا بمصر المباركة.
 
ثانيًا: أثبت القرآن الكريم والسنة المطهرة وجود مؤمنين من قوم فرعون الذى ادَّعى الألوهية والربوبية معًا، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّى ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ} [غافر:٢٨].
 
وهذه الآية حجة عظيمة واضحة الدلالة، فقد أثبت الله تعالى أن فى قوم فرعون من كان مؤمنًا بالله تعالى، وإنما كتم إيمانه من بطش فرعون وكيده، بل إن آسية امرأة فرعون هى سيدة نساء أهل الجنة، كما جاء فى قوله تعالى: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمۡرَأَتَ فِرۡعَوۡنَ إِذۡ قَالَتۡ رَبِّ ٱبۡنِ لِى عِندَكَ بَيۡتٗا فِى ٱلۡجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِى مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ} [التحريم: ١١].
 
وكما نصت الأحاديث الصحيحة أيضا بذلك، كما فى الحديث عَنْ أَبِى مُوسَى رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ». [البخاري: ٣٤١١، ومسلم: ٢٤٣١].
 
وقال الإمام شيخ الإسلام النووى رحمه الله تعالى أثناء حديثه عن فرعون الذى كان فى زمان سيدنا موسى عليه السلام: "وليس فى الفراعنة أعتى منه، وليس هو فرعون يوسف عليه السلام؛ لأن فرعون يوسف أسلم على يديه، والله أعلم".
 
يعضد هذا أيضا ما جاء فى السنة المطهرة من نبأ ماشطة ابنة فرعون، ففى الحديث الذى رواه ابن ماجه، والإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَى بْنِ كَعْبٍ، رضى الله عنهم أجمعين عَنْ سيدنا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْلَةَ أُسْرِى بِهِ وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً، فَقَالَ: «يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ؟» قَالَ: هَذِهِ رِيحُ قَبْرِ الْمَاشِطَةِ وَابْنَيْهَا وَزَوْجِهَا، قَالَ: وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مَمَرُّهُ بِرَاهِبٍ فِى صَوْمَعَتِهِ، فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّاهِبُ، فَيُعَلِّمُهُ الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَضِرُ، زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً فَعَلَّمَهَا الْخَضِرُ، وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَهُ أَحَدًا، وَكَانَ لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَهُ أَبُوهُ أُخْرَى، فَعَلَّمَهَا وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَهُ أَحَدًا، فَكَتَمَتْ إِحْدَاهُمَا، وَأَفْشَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى أَتَى جَزِيرَةً فِى الْبَحْرِ، فَأَقْبَلَ رَجُلَانِ يَحْتَطِبَانِ فَرَأَيَاهُ، فَكَتَمَ أَحَدُهُمَا، وَأَفْشَى الْآخَرُ، وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الْخَضِرَ، فَقِيلَ: وَمَنْ رَآهُ مَعَكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ، فَسُئِلَ، فَكَتَمَ وَكَانَ فِى دِينِهِمْ أَنَّ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ، قَالَ: فَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْكَاتِمَةَ، فَبَيْنَمَا هِى تَمْشُطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ، إِذْ سَقَطَ الْمُشْطُ، فَقَالَتْ: تَعِسَ فِرْعَوْنُ، فَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا، وَكَانَ لِلْمَرْأَةِ ابْنَانِ وَزَوْجٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَرَاوَدَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا أَنْ يَرْجِعَا عَنْ دِينِهِمَا، فَأَبَيَا، فَقَالَ: إِنِّى قَاتِلُكُمَا، فَقَالَا: إِحْسَانًا مِنْكَ إِلَيْنَا، إِنْ قَتَلْتَنَا أَنْ تَجْعَلَنَا فِى بَيْتٍ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا أُسْرِى بِالنَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ فَأَخْبَرَه.
 
وقال وِلْ ديورانت فى "قصة الحضارة" (٢/ ١٨٦): "والمصريون على ما نعرف أول من وضع دستورًا واضحًا للضمير الفردى، والضمير العام، وهم أول من نادى بالعدالة الاجتماعية، وبالاقتصار على زوجة واحدة، وأول من دعا إلى التوحيد فى الدين".
 
وجاء فى بردية محفوظة فى المتحف البريطاني: "أنت الإله الأكبر... سيد السماء والأرض... خالق كل شيء... يا إلهى وربى وخالقى... ". [الأدب والدين لأنطون ذكرى (صـ٦٥)].
 
وقال الأستاذ العقاد رحمه الله تعالى عن التوحيد فى الديانات القديمة: "والتوحيد توحيدان: توحيد الإيمان بإله واحد خلق الأحياء وخلق معهم أربابًا آخرين. وتوحيد الإيمان بإله واحد لا إله غيره.
 
ولم تُعرف أمة قديمة ترقَّتْ إلى الإيمان بالوحدانية على هذا المعنى غير الأمة المصرية".
 
فالأستاذ العقاد يقرر أن إطلاق كلمة التوحيد كانت تقال عمن يثبت الوحدانية لله تعالى ولكن لا يمنعون وجود شريك آخر وهو عين شرك الجاهلية لما كانوا يقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك"، فهم قالوا بوجود إله ولكن عبدوا معه غيره. بخلاف منكر الألوهية أصلا.
 
وأما الصنف الثانى فهو التوحيد الخالص الذى لا يثبت ذاتا مشاركة لله فى شيء، بل هو المنفرد بكل كمال، فيقرر الأستاذ العقاد أنه لا يعرف أمة ترقت إلى هذا النوع غير الأمة المصرية.
 
وقال الشيخ الفقيه محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى بعد أن ذكر تعدد الآلهة فى الحضارة المصرية وغيرها: "يجب علينا أن نعتقد أن دعوات إلى التوحيد الخالص بعبادة إله واحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، قد تواردت على العقل المصرى، وبعيد أن ننفى نفيًا تامًّا عن المصريين فى مدى خمسة آلاف سنة ازدهرت فيها حضارتهم، ونمت أن تكون قد وردت عليهم عقيدة التوحيد بدعوة من رسول مبين".
 
وقد كتب الدكتور نديم عبد الشافى السيَّار كتابًا ماتعًا بعنوان: "قدماء المصريين أول الموحدين" [مطابع الأهرام بكورنيش النيل]، وقد أفاض فى ذلك وأجاد فأفاد، وقدم صورة متكاملة فى إثبات قضيته باستعراض كلام المصريين القدماء فى كل زمن على ما ورد فى البرديات ونصوصهم المترجمة، وأن أزمانهم لم تخل من التوحيد إن لم تكن هى حامية التوحيد والقائمة به عبر التاريخ البشري.
 
وجُماع القول أن تصوير المصريين القدماء بالتعميم والإطلاق على أنهم كانوا على الشرك من المغالطة؛ بل إنهم عرفوا التوحيد الخالص ودانوا به قبل شعوب عديدة لاتصالهم بالأنبياء من جهة، والحكماء كلقمان وأمين موبى وإخناتون، وذى القرنين، والخضر، وسارة، وآسية، وغيرهم من جهة أخرى.
 
يتبيّن من دراسة النصوص الدينية والتاريخية أن وصف المصريين القدماء جميعًا بالشرك تعميم غير دقيق، فقد وُجد فى مصر القديمة دعاة إلى التوحيد ومؤمنون بالله، وشهدت بعض عصورها نزعات توحيدية واضحة كعصر إخناتون؛ وعليه فمصر لم تكن دار وثنية مطلقة، بل عرفت دعوات إلى عبادة الإله الواحد منذ أقدم العصور.

الأكثر قراءة



print