السودان
- أكثر من سبعة ملايين طفل سوداني بلا شهادات ميلاد
- الحرمان من التعليم والرعاية يهدد حقوق جيلٍ كامل من السودانيين
- كلتوم "أم سودانية وضعت خلال النزاع": "طفلي بلا هوية ولا شهادة ميلاد"
- ولدت قبل معادي من كتر الخوف.. شهادة من قلب المأساة
- غياب تسجيل المواليد واستحالة التوثيق الرسمي فى مناطق الدعم السريع نتيجة الفراغ الإدارى والمأساة الصحية
سوريا ولبنان
- لبنان: تسجيل مواليد اللاجئين السوريين ما زال معقدًا رغم تعديلات الحكومة
- وزارة الصحة اللبنانية: الولادات خارج المستشفيات وراء بقاء آلاف الأطفال بلا تسجيل
- ميشال الشماعي: أزمة النازحين السوريين تحولت إلى تهديد ديموغرافي للبنان
- الأمم المتحدة تدفع باتجاه العودة الطوعية بدعم مالي ولوجستي
أوكرانيا
- أقل من نصف المواليد مسجلون رسميا في المناطق المحتلة مؤقتا بأوكرانيا
- الحرب تُخفض معدل المواليد بنسبة 28% بأوكرانيا
- نزوح النساء بأوكرانيا يؤجل الإنجاب ويعمق الأزمة السكانية
- انخفاض سكان أوكرانيا من 43 إلى 37 مليون نسمة
غزة
- جيل بلا هوية... مواليد غزة خارج السجلات الرسمية
- الولادة تحت القصف... أطفال يولدون في الخيام بلا أسماء ولا شهادات ميلاد
- "ابني مالوش اسم".. أمهات يروين مأساة الحياة بلا أوراق ولا حليب
- تهاني: "حفيدتي اتولدت في خيمة... ولا اسم لها ولا حليب"
في مناطق الحصار والنزوح والحروب، يولد آلاف الأطفال بلا شهادات ميلاد، على الورق هم غير موجودين، بلا اسم رسمي، بلا رقم قومي، وبلا حقوق مدنية أساسية، عالميًا ما يزال نحو 150 مليون طفل دون الخامسة غير مسجلين عند الولادة - أي طفلان من كل عشرة - وفق منظمة اليونيسف في 2024، وهذا يعني ملايين الرضع يبدئون من نقطة انعدام قانوني.
الهوية ليست رفاهية، فشهادة الميلاد مفتاح يتبعه باب التعليم والصحة والحماية والجنسية أن تولد بلا شهادة يعني أن يبدأ عمرك بعد تنازلي من الفرص، ففي زمن تتكاثر فيه النزاعات، يصبح التسجيل عند الولادة واحدا من أقل التدخلات كلفة وأعظمها أثرًا شريطة أن تُصمَّم له مسارات طوارئ ذكية تُراعي الواقع، فلا يظل الأطفال رهائن المنطقة الرمادية بين الحياة والعدم.
غزة.. 10 آلاف مولود بلا رقم
منذ 7 أكتوبر 2023، قدر شركاء حماية الطفل أن ألاف المواليد ربما لم يتم تسجيلهم بسبب الانهيار الإداري وتوقف العمل بالمديريات المدنية خلال الحرب، وهذا يخلف أطفالًا بلا هوية قانونية الآن، ويصعب لمّ شمل الأسر لاحقًا، بحسب الأمم المتحدة والصحة الفلسطينية .
في غزة، لم تعد معاناة الأهالي مقتصرة على انعدام الغذاء والدواء وفقدان المأوى، بل امتدت لتطال الهوية القانونية لأطفال يولدون بلا أسماء مسجلة ولا أوراق رسمية تثبت وجودهم، حيث تولد عشرات الحالات داخل مراكز الإيواء أو في ظروف ميدانية قاسية، دون أن يتم تسجيلهم في السجلات الرسمية، ما يحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية والقانونية.
سهر، إحدى النازحات من شمال القطاع إلى دير البلح ثم إلى خيمة في مركز إيواء برفح، روت بمرارة أنها لا تعرف مصير زوجها، وأن رضيعها الذي ولد خلال الحرب لا يحمل اسما رسميا ولا شهادة ميلاد، ما يعني عدم قدرته على الحصول على الحليب أو الحفاضات أو حتى الرعاية الطبية.
وقالت سهر: "قالوا لي هذا المولود مالوش اسم ومش قادرة أصرّف له حليب ولا بامبرز، وأنا نفسي مش مسجلة، وكل شيء أشتريه على حسابي رغم أني لا أملك مصدر دخل ولا من يعيلني."
هذه المأساة تتكرر في قصة الطفلة حديثة الولادة، حفيدة تهاني حمد، التي ولدت قبل أسبوع داخل خيمة ولم يمنح لها اسم حتى الآن، مما جعلها خارج قوائم المساعدات الإنسانية، حيث قالت تهاني حمد: "ما فيش إلها اسم، ولا بامبرز ولا حليب، والأم تعبانة وما لها أي مُعيل، وابني بلا عمل ولا مصدر رزق."
عدم تسجيل المواليد الجدد يحرمهم من الحصول على الرعاية الصحية والتطعيمات الأساسية، ويحول دون قدرتهم على السفر للعلاج إذا اقتضت الضرورة، لعدم إدراجهم في الوثائق الرسمية المعتمدة للمغادرة من القطاع المحاصر، فهكذا يولد أطفال غزة اليوم بلا هوية ولا حماية، في واحدة من أشد الأزمات الإنسانية التي تهدد مستقبل جيل كامل منذ اللحظة الأولى لولادته.
لا أرقام حول عدد المواليد غير المسجلين بغزة
وفي هذا السياق يؤكد كاظم أبو خلف، المتحدث باسم منظمة اليونيسف، أن الغالبية العظمى من المواليد الجدد يتم تسجيلهم في الوقت الحالي، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن هناك تقديرات تشير إلى أن عددًا من الأطفال الذين وُلدوا خلال عامي 2023 و2024 لم يتم تسجيلهم رسميًا بسبب تداعيات الحرب وتضرر مؤسسات السجل المدني.
ويضيف في تصريحات خاصة، أنه لا توجد حتى هذه اللحظة أرقام دقيقة توضح حجم هؤلاء غير المسجلين، خاصة في ظل الظروف الميدانية المعقدة، متابعا :"ما نعلمه أن معدل الولادات اليومي في غزة يصل إلى نحو 136 مولودًا يوميًا، ما يعني أن أي تعطل أو خلل في خدمات التسجيل قد يؤدي إلى تراكم أعداد كبيرة من الأطفال خارج النظام الرسمي للهوية والحقوق".
تسجيل المواليد في غزة مستمر
في المقابل يؤكد المحامي بكر الضابوس، الناشط الحقوقي الفلسطيني، أن عملية تسجيل المواليد في غزة مستمرة رغم ظروف الحرب، حيث جرى توثيق جميع المواليد رسمياً ونشر عدة إحصاءات شهرية تكشف الأعداد الدقيقة.
ويضيف في تصريحات خاصة، أن ما يُثار حول وجود مواليد غير مسجلين لا يتجاوز حالات فردية نادرة – إن وجدت – ويتم التعامل معها فوراً وفق الإجراءات القانونية المعمول بها لضمان حصول المولود على كافة حقوقه المدنية.
ويوضح أن هذه الحالات لا تعكس واقع النظام الإداري في غزة، بل تؤكد الحرص المؤسسي على تثبيت الهوية القانونية لكل طفل منذ لحظة ولادته.
وخلال تصريح له صادر في مارس الماضي، أكد الدكتور منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في غزة أن عدد المواليد الجدد في القطاع انخفض من 50 ألفا إلى 36 ألفا سنويا بسبب الحرب الإسرائيلية، لافتا إلى أن الاحتلال استهدفت المنظومة الصحية بشكل واضح واستخدم الحصار والتجويع كوسيلة لحرب الإبادة الجماعية.
وأوضح أن قوات الاحتلال دمرت 25 مستشفى وأخرتهم عن الخدمة من أصل 38، كما استهدف الأطفال والنساء إذ بلغ عدد الشهداء من الأطفال 17 ألف طفل ومن السيدات 12 ألف سيدة، وهذه من العوامل التي أدت إلى انخفاض عدد المواليد الجدد في القطاع المحاصر، لافتا إلى أن السيدات الحوامل والمواليد الجدد لا يجدون الرعاية الصحية.
بينما تؤكد المهندسة دعاء صالح، مدير مشاريع مؤسسة إنقاذ الطفل في فلسطين، أن هناك تقارير أممية وميدانية تفيد بوجود عدد من الرضع في غزة لم تسجل ولادتهم رسميا بسبب تأثيرات الحرب، حيث تشير تقديرات شركاء الحماية بالأمم المتحدة " OCHA" وشركاؤها إلى أن حوالي 10,000 مولود لم يتم تسجيلهم منذ 7 أكتوبر 2023 بسبب تعطّل المكاتب الحكومية ونزوح العائلات.
وتضيف في تصريحات خاصة، أن أسباب الأزمة هو تعطل المستشفيات ومكاتب السجل المدني، ودمار البنى التحتية، والنزوح المتكرر وفقدان الوثائق، وإجراء العديد من الولادات في المنازل أو مراكز مؤقتة دون آلية واضحة للتسجيل.
وتشير إلى أن منظمة اليونيسف وثقت أعدادا كبيرة من الولادات خلال التصعيد، خاصة أن هناك تقارير ذكرت آلاف المواليد الذين وُلدوا في خضم الحرب، والكثير منهم ولدوا بدون هوية رسمية، مما يؤثر على حقهم في الرعاية والصحة والتعليم لاحقًا.
سوريا ولبنان.. لاجئون بين ثغرات القانون
في لبنان، تحسن مسار تسجيل مواليد اللاجئين السوريين عبر سجل الأجانب ليصل إلى 30% في عام 2019 بعد أن كان 21% في عام 2018، لكنه تراجع مجددًا إلى 28% في عام 2020، ورغم أن نحو 98% من الولادات امتلكت الحد الأدنى من المستندات "شهادة من طبيب"، فإن الوصول إلى التسجيل النهائي ظل معقدا، بحسب مركز معلومات لبنان.
السلطات اللبنانية عدلت لاحقا بعض الإجراءات لتسهيل تسجيل مواليد السوريين منها تمديد المهلة الإلزامية للتسجيل، لكن الحاجة ما تزال قائمة إلى الإرشاد القانوني والمتابعة المستمرة لضمان شمول جميع الولادات بالتوثيق الرسمي.
وفي 24 أكتوبر 2022، أكدت وزارة الصحة اللبنانية أن عدم تسجيل الأطفال حديثي الولادة بات مشكلة متفاقمة بين اللاجئين السوريين في لبنان، ازدادت حدة مع الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
وأوضحت أن العديد من الولادات تجري خارج المستشفيات، ما يجعلها خارج السجلات الرسمية، لافتة إلى أن الوزارة بدأت تسجيل ولادات اللاجئين منذ عام 2012، وفي عام 2021 سجل في لبنان 100 ألف ولادة، 40% منها لسوريين، إلا أن حالات كثيرة لا تزال خارج الجداول، خصوصا بعد عام 2019 نتيجة التدهور الاقتصادي.
من جانبه، يرى الباحث والكاتب السياسي اللبناني الدكتور ميشال الشماعي أن قضية النازحين السوريين في لبنان تحوّلت إلى أزمة وجودية ذات أبعاد ديموغرافية واقتصادية واجتماعية، محذرًا من تأثيرها العميق على التركيبة اللبنانية وعلى الحياة المهنية والاجتماعية للمواطنين.
ويقول الشماعي في تصريحات خاصة، معلقا على تأثير عدم تسجيل مواليد اللاجئين السوريين:"مسألة النازحين السوريين شكّلت أزمة وجودية في لبنان، إذ اعتبرها بعض اللبنانيين تهديدًا ديموغرافيًا لوجودهم، لأن معظم السوريين الذين نزحوا ينتمون إلى المكوّن الحضاري السني، والتركيبة اللبنانية دقيقة للغاية، وهذه المسألة أثّرت سلبًا على النسيج المجتمعي، خصوصًا في سوق العمل، حيث لم يعد اللبنانيون يجدون وظائف أو أعمالًا حرة كـالنجارة والحدادة والزراعة، بعدما أصبحت بمعظمها مهنًا يمارسها السوريون."
ويضيف أن الوجود السوري فاقم الأزمة الاقتصادية، لكنه لا يمكن تحميله كامل المسؤولية، إذ توجد طبقة فاسدة جرى تغطيتها بالسلاح غير الشرعي لحزب الله، على قاعدة "اغط لي السلاح أغطّ لك الفساد"، موضحا أن البعض استثمر في هذه القضية الإنسانية عبر جمعيات تلقت أموالًا من دول مانحة واستغلت لأغراض مشبوهة، والدولة اللبنانية تجري تحريات حولها، وقد تم توقيف بعضها، فيما لا يزال البعض الآخر يعمل حتى الآن.
ويأتي حديث الشماعي بينما يستضيف لبنان أعدادًا كبيرة من اللاجئين مقارنة بعدد سكانه، إذ تقدر جهات رسمية ومنظمات دولية أعداد النازحين السوريين بمئات الآلاف إلى أكثر من مليون لاجئ، ما يشكل ضغطًا هائلًا على الخدمات العامة والاقتصاد المحلي.
وفي الوقت الذي تشهد فيه البلاد مبادرات دولية وبرامج للعودة الطوعية لبعض النازحين، تلعب الأمم المتحدة ومنظماتها دورًا في تقديم المساعدات وإطلاق خطط عودة مدعومة ماليًا ولوجستيًا، في محاولة لتحقيق توازن بين حماية اللاجئين واحتياجات المجتمعات المضيفة. كما وثّقت تقارير وشهادات ميدانية حالات استغلال وتحديات في إدارة المساعدات وحماية اللاجئين.
ويرى محللون أن معالجة ملف النازحين السوريين تتطلب خطة وطنية شاملة تقوم على ثلاثة محاور أساسية وهم ضمانات أمنية وقانونية تُشجّع على العودة الطوعية الآمنة، وتعاون دولي لإعادة الإعمار في مناطق العودة، وإجراءات صارمة لمكافحة الفساد ومحاسبة الجهات التي استغلّت المساعدات الإنسانية، وعبر هذه الخطوات يمكن أن تكتسب عمليات العودة طابعها الطوعي والآمن، وتتحقق الموازنة بين الحقوق الإنسانية والاستقرار الوطني.
السودان.. خطر انعدام الجنسية
تقرير مفوضية اللاجئين عن السودان 2024–2025 يُشير إلى أن قصور الوصول للتسجيل المدني وشهادات الميلاد يظل عامل مخاطرة بانعدام الجنسية بين النازحين واللاجئين.
وبين أصوات القصف وغياب الدولة ولد مئات الأطفال في السودان بلا وثائق تثبت وجودهم، لكن الأمر أن الأمهات في مناطق الصراع المحتدم بين الجيش وقوات "الدعم السريع" لأكثر من عامين وضعن في البيوت والملاجئ وحتى الطرقات من دون رعاية صحية كافية، مع ذلك فإن التحدي الأكبر لم يكن في لحظة الولادة، بل في ما تلاها، إذ لا شهادات ميلاد ولا أوراق رسمية ولا اعتراف قانوني.
هؤلاء أبناء الحرب الذين يواجهون مصيرا مجهولا، فضلا عن حرمانهم من التعليم والعلاج، والتهديد بفقدان حقهم في الجنسية، وهي واحدة من أخطر تبعات الحرب غير المباشرة.
سبعة ملايين طفل غير مقيدين بسجلات المواليد
وأظهر تقرير رسمي سوداني وجود أكثر من سبعة ملايين طفل غير مقيدين ضمن سجلات المواليد في البلاد، مما دفع مؤسساتٍ رسمية إلى المناداة بإيجاد سبلٍ لمعالجة هذا الواقع، موضحا أن الأطفال المعنيين سيعانون من أجل الحصول على حقوقهم في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وذلك يقف حائلا دون خطط الدولة لرسم خارطة مستقبلهم.
واضطرت السيدة السودانية كلتوم عبد الله إلى وضع مولودها الأول داخل مركز إيواء للنازحين بمدينة كوستي جنوب السودان، في ظروف إنسانية قاسية تفتقر لأدنى مقومات الرعاية الصحية والخصوصية.
وتكشف كلتوم بألم أن طفلها لم يحصل حتى الآن على أي أوراقٍ ثبوتية أو شهادة ميلاد، ما يجعله غير معترف به قانونيًا، ويحرمه من حقوقه الأساسية كمواطن.
هذا الوضع يزيد من معاناتها اليومية، إذ تواجه صعوباتٍ جسيمة في الحصول على جرعات التطعيم اللازمة لطفلها، لعدم امتلاكها أي مستندات رسمية تثبت هويته أو حالته الصحية، وهو ما يهدد حياة الرضيع ويجعله عرضة للأمراض والأوبئة في بيئةٍ مكتظةٍ بالنازحين وتفتقر للخدمات الطبية.
وتعيش السيدات الحوامل في السودان واحدة من أشد الأزمات الإنسانية فداحةً منذ اندلاع الحرب، حيث تحولت رحلة الحمل والولادة إلى تجربة محفوفة بالخوف والمخاطر الصحية والنفسية.
وتكشف إفادة إحدى السيدات – التي فضلت عدم ذكر اسمها – عن مأساة متكاملة، حين اضطرت إلى الخضوع لولادة قيصرية مبكرة نتيجة التوتر الشديد والرعب من القصف المستمر، رغم أنها لم يسبق لها الولادة بهذه الطريقة من قبل.
وتقول: "ولدت قبل معادي من كتر الخوف، أول مرة أولد قيصري من التعب والإرهاق، من أول أسبوع وأنا أتنقل من مأوى لآخر، من مدرسة لأخرى، وكلما يقصفون نُجبر على الإخلاء، حتى بعد الولادة لم أجد سريرًا آمنًا لي ولرضيعتي، وتمت مطالبتي بإخلاء المكان لآخرين ولم تستطع في النهاية تسجيل المولودة".
ولا تقف المعاناة عند الولادة الطارئة فقط، بل تمتد إلى عجز الأمهات عن إرضاع أطفالهن بسبب سوء التغذية وعدم توافر الحليب الصناعي في الأسواق، حيث تقول:"ابنتي لا تجد قطرة حليب، وفتشت في كل المناطق ولم أجد أي بديل يمكن أن ينقذ حياتها."
النساء بين تهديد القصف والخوف من فقدان الجنين
فيما وصفت إحدى السيدات السودانيات الحوامل لحظاتَ المخاض بأنها كانت بين تهديد القصف والخوف من فقدان الجنين، قائلة :" كنت أسمع أصوات القذائف فوق غرفة الولادة، لا أعرف هل أخاف على حياتي أم على طفلي الذي لم يولد بعد؟".
وبعد الولادة بأيامٍ قليلة، اضطرت إلى النزوح سيرا على الأقدام عبر طرقٍ مدمرة، وهي تحمل طفلها حديث الولادة، مارةً بنقاط تفتيشٍ عسكرية يمنع فيها حتى الجلوس أو التوقف من التعب، وهو ما جعلها لا تتمكن من تسجيل مولودها.
وهذه الشهادات تجسد واقعا مريرا تعيشه النساء الحوامل في السودان، واقعًا يفتقر إلى الأمان والرعاية الصحية، ويهدد حياة الأمهات والأجنة في كل لحظة، في ظل غياب شبه كاملٍ للمنظومة الصحية واشتداد وطأة النزوح والحصار.
من جانبه، يؤكد الإعلامي السوداني عماد السنوسي أن المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني والحكومة الشرعية شهدت خلال الفترة الماضية تحسنًا ملحوظًا في الخدمات الأساسية، حيث تمكنت السلطات من استعادة منظومات البيانات التابعة لوزارة الداخلية، بما أتاح للنساء إمكانية تسجيل المواليد والحصول على الخدمات المدنية المتاحة بصورة طبيعية.
ويضيف السنوسي في تصريحاتٍ خاصةٍ، أن الحياة عادت بصورةٍ شبه كاملة في معظم المناطق المحررة والآمنة التي أعاد الجيش السيطرة عليها، وهو ما ساهم في تطبيع الأوضاع وعودة العمل بالمؤسسات.
ويشير إلى أن مناطق انتشار ميليشيا الدعم السريع تشهد انهيارًا كاملًا في منظومة الخدمات، حيث تغيب عملية تسجيل المواليد بشكلٍ تام، وتواجه النساء صعوباتٍ كبيرة في الوصول إلى المرافق الصحية لإجراء الولادة، فضلًا عن استحالة توثيق المواليد أو حصولهم على أي بياناتٍ رسمية.
ويوضح الإعلامي السوداني أن المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا الدعم السريع تعاني حالةً من الانهيار الأمني والسيولة في مختلف مناحي الحياة، مشيرًا إلى أن ما يسمى بـ"التمثيل الإداري" هناك غير شرعي ولا يعترف به القانون السوداني.
ويؤكد السنوسي أن التنسيق مع وكالات الأمم المتحدة في تلك المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات ضعيف للغاية، إذ لا تتمكن المنظمات الدولية من الدخول أو تقديم المساعدات إلا بعد الحصول على إذن رسمي من الحكومة السودانية، نظرًا لكون هذه المناطق تُعدّ مناطق استهدافٍ عسكري محتمل.
ويضيف أن غياب الكوادر الصحية والطبية أدى إلى شللٍ كامل في الخدمات الأساسية، حيث تفتقر تلك المناطق إلى أدنى مقومات الرعاية الصحية، خاصة فيما يتعلق بصحة الأطفال والأمهات، مما يجعل الحياة فيها شبه معدومة من ناحية الخدمات الإنسانية الأساسية.
أوكرانيا: أطفال «المناطق المحتلّة مؤقتًا»
قبل الغزو الشامل عام 2022، قدرت وزارة العدل الأوكرانية أن 45% فقط من مواليد مناطق دونيتسك ولوهانسك، و12% من مواليد القرم، حصلوا على شهادات ميلادٍ رسمية؛ وبعد 2022 ازدادت التعقيدات للمواليد في المناطق المحتلة مؤقتا.
وبحسب إحصائيات رسمية أوكرانية صدرت في أغسطس 2023 – أي بعد عام ونصف من بداية الحرب تقريبًا – فإن النزاع تسبب في انخفاض معدل المواليد بنسبة 28%، حيث إنه في الأشهر الستة الأولى من عام 2023، سجلت أوكرانيا أكثر من 96,755 طفلًا، مقارنةً بـ135,079 طفلًا في النصف الأول من عام 2021.
ورغم أن عدد الأطفال حديثي الولادة انخفض خلال العقد الماضي، إلا أن هذا يُعد أكبر انخفاض منذ نيل أوكرانيا استقلالها عام 1991، إذ كان يُسجل نحو 23 ألف طفل حديث الولادة في كييف كل شهر، إلا أن هذا العدد انخفض بعد الصراع إلى حوالي 16 ألفًا.
وكشفت بيانات وزارة العدل الأوكرانية، أن النصف الأول من عام 2024 شهد ولادة 87,655 طفلًا فقط، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 9% مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، حيث أدت هذه العوامل مجتمعةً إلى انخفاض عدد سكان أوكرانيا من 43.5 مليون نسمة في عام 2021 إلى 37.9 مليون في العام الماضي، مع وجود نسبةٍ كبيرةٍ منهم في الأراضي التي تحتلها روسيا حاليًا.
وفي عام 2023، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن تراجعٍ حاد في معدلات المواليد بأوكرانيا خلال الأشهر الستة الأولى من العام نفسه، حيث سُجل نحو 96 ألف مولود فقط، مقارنةً بـ135 ألف مولود في الفترة نفسها قبل اندلاع العملية العسكرية، وهو أدنى مستوى منذ استقلال البلاد عام 1991.
وأرجعت الصحيفة هذا الانخفاض غير المسبوق إلى تأثيرات الحرب التي دفعت العديد من الأسر إلى تأجيل قرار الإنجاب، فضلًا عن نزوح ملايين النساء مع أطفالهن إلى خارج البلاد، بينما بقي الأزواج داخل أوكرانيا للقتال.
كما أكدت وسائل إعلامٍ أمريكية أن متوسط عدد الأطفال الذين تلدهم المرأة الأوكرانية يُعد من الأدنى في أوروبا حتى قبل اندلاع الحرب، وسط تحذيراتٍ من خبراء الديموغرافيا بأن أوكرانيا قد تسجل أدنى معدل مواليد في العالم إذا استمر هذا الاتجاه الانحداري.
وفي أبريل الماضي، قال ألكسندر جلادون، الخبير في مجال الديموغرافيا، إن الوضع الديموغرافي الحالي في أوكرانيا يتطلب زيادة معدل المواليد.
ووفقًا له، يبقى المعدل الأمثل أن تقوم كل مئة امرأة بولادة 210–220 طفلًا، لكن لأن بعض النساء لا يرغبن في ذلك أو لا يستطعن القيام به بسبب ظروفٍ مختلفة، فيجب على بقية النساء الأوكرانيات في سن الإنجاب زيادة معدل الولادات ليصل إلى ثلاثة أطفالٍ لكلٍّ منهن حتى لا ينخفض عدد سكان البلاد.
ماذا يعنى عدم التسجيل عمليًّا؟
الولادة بلا شهادة يعني أنه في مجال تعليم هناك صعوبة الالتحاق بالمدرسة أو الجلوس للامتحانات الرسمية، وفي مجال صحة، هناك تعثر الحصول على التطعيمات والخدمات أو التأمين الصحي، بينما يكون هناك صعوبة في لم الشمل، وإثبات النسب، أو الحماية من الاتجار والتجنيد، وقانونيا يكون هناك تعقد استخراج الجنسية لاحقًا، والزواج، والعمل، والسفر، وهوية نفسية يكون هناك إحساس بالنبذ واللا انتماء يلازم الطفل وأسرته.
وتقر المواثيق الدولية بحق الطفل في اسمٍ وجنسيةٍ فور الولادة، لكن في البيئات الهشة تتحول الإجراءات البسيطة إلى سلسلةٍ معقدة مثل إثبات زواج، شهود، تقرير ولادة، ختم إداري، مراجعات أمنية، بينما الحلول تتطلب مسارات طوارئ بديلة أثناء النزاعات تُنقذ الحق دون أن تُثقل كاهل الأسرة.
غياب شهادة الميلاد أو التسجيل الرسمي يعرض الطفل لمشكلات طويلة الأمد، وصعوبة في الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية والمساعدات الإنسانية، إضافةً إلى مشكلات قانونية وإدارية محتملة عند السفر أو التوثيق لاحقًا.
التأثير النفسي والعصبي على الأطفال
في هذا السياق تؤكد الدكتورة منى حمدي، استشارى الصحة النفسية، تؤكد أن ظاهرة مواليد بلا شهادات ميلاد يترتب عليها تأثيرات نفسية وعصبية واجتماعية عميقة وطويلة الأمد على الأطفال وأسرهم، تتجاوز الجوانب القانونية والخدمية.
وتوضح في تصريحات خاصة، أن عدم امتلاك الطفل هوية رسمية يرسخ لديه شعورًا عميقًا بعدم الأمان وعدم الاعتراف بوجوده، خاصةً في بيئة صعبة مثل غزة، وهذا يعرضه لما يسمى ب"أزمة الهوية"، متابعة: "عندما يكبر الطفل ويدرك أنه غير مُسجل قانونيًا، قد تتكون لديه أزمة هوية وشعور بأنه غير مرئي أو غير موجود في نظر الدولة والمجتمع، مما يؤثر على تقديره لذاته.
وتشير إلى أن الطفل الذي ليس لديه شهادة ميلاد يكون معرضا للقلق المزمن وانعدام الأمان، لأن الشعور بالانتماء والاستقرار يرتبط بامتلاك وثائق تثبت الوجود، وغيابها يؤدي إلى قلقٍ دائم وشعور بعدم الاستقرار والخوف من المستقبل والحرمان من الحقوق الأساسية، إلى جانب الإحساس بالتهميش والإقصاء عن أقرانه الذين يمتلكون وثائق، مما قد يؤدي إلى مشكلات سلوكية أو انعزالٍ اجتماعي أو مشاعر إحباط وغضب.
وتؤكد أن التعرض لصدمات الحرب بالتزامن مع غياب الاعتراف القانوني بالهوية يزيد من الشعور بالعجز، ويشكل ضغطًا نفسيًا وجهدًا ساما يؤثر سلبًا على تطور الجهاز العصبي والدماغ، ويُعيق النمو العصبي، وقد يزيد من خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب لاحقًا.
التأثير الاجتماعي
وتوضح الدكتورة منى حمدي، أن البنية الاجتماعية للأسرة والمجتمع بأكمله تتأثر بوجود جيلٍ غير موثق، فعدم إمكانية تسجيل الطفل يضع ضغطًا هائلًا على الرابطة الزوجية والأسرية، إذ قد يشعر الوالدان بالفشل في توفير الحماية الأساسية لطفلهما، مما يزيد التوتر داخل المنزل.
وتتابع :"كما يتسبب هذا الأمر في وصم اجتماعي قد يواجه الأطفال غير المسجلين وأسرهم بسبب الشك في النسب، خصوصًا في الحالات التي تزداد فيها صعوبة إثبات النسب أو الزواج الرسمي بسبب الظروف، وأحيانًا تعاني الأسر من العزلة والانسحاب الاجتماعي وتتجنب البحث عن خدماتٍ أو مساعدة خوفا من التعرض لمشكلات قانونية تتعلق بوضع أطفالها غير المسجلين، مما يؤدي إلى حرمانٍ ذاتيٍّ من الدعم".
وتشير إلى أن عدم تسجيل المواليد يؤثر على مستوى المجتمع، لأنه يؤدي ظهور جيل كامل مجهول الهوية، بعيد عن الإحصاءات الرسمية، إلى غيابهم عن خطط إعادة الإعمار والتنمية المستقبلية، مما يعيق جهود التعافي المجتمعي، ويحدث زيادة في الفجوات الاجتماعية، حيث إن الحرمان من التعليم وفرص العمل بسبب غياب الوثائق يؤدي إلى توسيع الفجوات الطبقية والاجتماعية، وخلق فئة من الشباب المحرومين من التمكين الاقتصادي والاجتماعي، ونتيجةً لتعطل سجلات المواليد، تنشأ فوضى في السجلات المدنية على المدى الطويل، مما يجعل جهود التوثيق وإعادة بناء الدولة المدنية بعد الحرب عمليةً بطيئة ومعقدة ومكلفة للغاية.
وتؤكد استشارى الصحة النفسية، أن عدم تسجيل المواليد ليس مجرد مشكلة إجرائية، بل إنه صدمة نفسية واجتماعية تهدد الأمن النفسي والعاطفي والاجتماعي للأطفال، وتضع عبئا لا يُطاق على الأسر، وتعيق قدرة المجتمع على التعافي بشكل منظم.