في مواسم الانتخابات البرلمانية القديمة، كانت الشوارع والساحات تمتلئ بأصوات الأغاني الشعبية التي تُغنّى خصيصًا للمرشحين، كانت تلك الأغاني تحمل أسماءهم ورموزهم الانتخابية، وأحيانًا تتغنى بأسماء دوائرهم ومناطقهم، في محاولة لكسب قلوب الناخبين عبر اللحن والكلمة البسيطة القريبة من الناس، اليوم، ومع التطور التكنولوجي السريع، اختفت هذه المهنة تمامًا، لتحل محلها أدوات العصر الرقمي، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي.
		يقول الفنان الشعبي ناجح عمارة، وهو أحد من عاصروا هذه الظاهرة في فترات سابقة: "قديماً، كانت الأغاني الانتخابية جزءًا أساسيًا من الدعاية، وكان المرشح لا يستغني عن مؤلف الأغاني، كانت تكتب كلمات تُمجّد المرشح وتُبرز مواقفه، ونربطها باسمه أو رمزه الانتخابي، ثم تُغنّى في السرادقات التي تُقام له أثناء الحملة".
		ويضيف عمارة أن تلك الأغاني كانت تُردَّد بحماس في الشوارع والقرى، حيث يتسابق أنصار المرشح لتشغيلها عبر مكبرات الصوت في المؤتمرات والمواكب الانتخابية، كانت تمثل شكلًا من أشكال المنافسة الفنية بين المرشحين، يميز كل واحد منهم بنغمة خاصة تعبر عنه وتعلق في أذهان الناخبين.
		لكن مع مرور الزمن وتطور أدوات الدعاية، تراجعت تلك المهنة حتى اختفت تمامًا، يقول عمارة بأسف: "اليوم، لم يعد أحد يطلب أغنية انتخابية بصورتها القديمة، أصبحت الحملات تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، من الفيديوهات المصممة بالذكاء الاصطناعي إلى الأغاني المصطنعة التي تُنشأ بكلمات وصور المرشح خلال دقائق".
		ويرى أن الذكاء الاصطناعي غيّر قواعد اللعبة تمامًا؛ فالمرشح لم يعد بحاجة إلى فريق من الشعراء والمطربين، بل يمكنه من خلال تطبيق بسيط أن ينتج أغنية كاملة باسمه وصوته الافتراضي، وبموسيقى تناسب شخصيته، لتُنشر خلال دقائق على مواقع التواصل الاجتماعي وتصل إلى جمهور أوسع بكثير من السرادق الشعبي القديم.
		ومع أن البعض يرى في ذلك تطورًا طبيعيًا لعصر الرقمنة، فإن آخرين يعتبرونه فقدانًا لجزء من الذاكرة الشعبية والهوية الفنية التي كانت تميز الحملات الانتخابية، تلك الأغاني، رغم بساطتها، كانت تُعبّر عن تفاعل حقيقي بين المرشح وجمهوره، وتخلق حالة من الود والمشاركة لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محلها.
		هكذا، انقرضت مهنة مؤلف الأغاني الانتخابية كما انقرضت مهن كثيرة ارتبطت بزمن ما قبل التكنولوجيا، تاركة خلفها حنينًا إلى أيام كان اللحن البسيط أقوى من أي حملة دعائية رقمية، وكان صوت المطرب الشعبي يختصر برنامج المرشح كله في بيت واحد من أغنية.
في مواسم الانتخابات البرلمانية الماضية، كانت السرادقات الانتخابية تضجّ بالأصوات والهتافات، ويتصدر المشهد "الهتيف" الذي يجوب المكان مرددًا عبارات حماسية تلهب حماس الحضور وتدفعهم لتأييد المرشح، ومع مرور الوقت وتطور أدوات الدعاية، اختفت هذه المهنة التي كانت تعدّ من أبرز مظاهر الحملات الانتخابية في مصر، لتحل محلها وسائل أكثر حداثة يقودها الذكاء الاصطناعي.
يقول مصطفى كوكب، أحد المهتمين بالمشاركة في الفعاليات الانتخابية، إن مشهد الانتخابات تغير تمامًا عما كان عليه في الماضي، موضحًا أن مهنة "الهتيف" كانت جزءًا أصيلًا من طقوس الدعاية الانتخابية، ويضيف: "زمان كان لازم يكون في السرادق واحد معروف بصوته العالي وكلماته المؤثرة، يهتف باسم المرشح ويشعل الحماس في الناس، كان يقول جمل محفوظة زي: لو جيت للحق فلان أحق، أو صوتك أمانة واللي يستحقه فلان".
ويتابع كوكب أن "الهتيف" لم يكن مجرد شخص يرفع صوته فحسب، بل كان رمزًا للتفاعل الشعبي ووسيلة لإشعار المرشح بمدى دعمه بين الناس، وكانت هذه الهتافات تنتقل من سرادق إلى آخر، وتنتشر بسرعة في الأحياء والقرى، لتصبح جزءًا من الذاكرة الانتخابية التي لا تُنسى.
		لكن التطور التكنولوجي السريع غيّر شكل الحملات الانتخابية تمامًا، إذ بات المرشحون يعتمدون على تقنيات الذكاء الاصطناعي في إعداد مواد دعائية حديثة، تشمل فيديوهات وأغانٍ وهتافات إلكترونية تحمل أسماءهم وشعاراتهم. ولم تعد هناك حاجة إلى "الهتيف" التقليدي، بعد أن صارت الجمل الدعائية تُنتَج رقميًا بجودة صوت ومؤثرات تضاهي الواقع، وتُبث بسهولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
		ويرى كوكب أن هذا التحول يعكس روح العصر، لكنه في الوقت نفسه أفقد الحملات الانتخابية جزءًا من دفئها الإنساني وبساطتها القديمة. فالهتيف، كما يقول، كان يمثل "روح السرادق" وصوت الشارع الحقيقي، بينما تحوّلت الحملات اليوم إلى مشهد رقمي بارد لا يحمل نفس العفوية التي اعتادها المصريون في مواسم الانتخابات.
		ومع أن الذكاء الاصطناعي قد جعل الدعاية الانتخابية أكثر احترافية وانتشارًا، إلا أنه لم يستطع أن يعوّض تمامًا حضور "الهتيف" الذي كان صوته يختصر مشاعر التأييد والفرح والانتماء في جملة واحدة تهزّ القلوب قبل الميكروفونات.
ومن بين تلك المهن التي كانت تحظى بمكانة خاصة في الماضي، مهنة الخطاط الذي كان يتولى كتابة اليافطات الانتخابية يدويًا على القماش أو الجدران، بخط جميل يحمل أسماء المرشحين ورموزهم الانتخابية وشعاراتهم.
يقول سامح عسكر، خطاط مارس المهنة منذ سنوات طويلة، إن الخطاط كان عنصرًا أساسيًا في الحملات الانتخابية، إذ لم تكن الطباعة الحديثة ولا برامج التصميم قد ظهرت بعد. ويضيف: "كنت أكتب أسماء المرشحين وشعاراتهم على القماش يدويًا، وكان هذا العمل يحتاج إلى دقة وصبر، وكان الناس يقدّرون الخط الجميل لأنه يعكس شخصية المرشح وهيبته. في ذلك الوقت لم تكن البوسترات الورقية أو البنرات البلاستيكية منتشرة، وكان لكل خطاط بصمة خاصة تميّزه عن غيره".
ويتابع عسكر أن تلك الأيام كانت تشهد منافسة بين الخطاطين على جودة الخط وجمال الألوان، وأن بعض المرشحين كانوا يفضّلون خطاطًا بعينه لأن أسلوبه في الكتابة يجذب الأنظار ويمنح اليافطة طابعًا مميزًا. لكنه يؤكد أن هذه المهنة بدأت تتراجع تدريجيًا مع ظهور ماكينات الطباعة الحديثة وبرامج التصميم الجاهزة، التي جعلت من السهل إنتاج آلاف اليفط خلال ساعات قليلة.
ويقول عسكر بأسف: "الآن أي شخص يمكنه أن يصمم دعاية انتخابية باستخدام الكمبيوتر وبرامج مثل الفوتوشوب، ثم يرسلها إلى ماكينة الطباعة لتخرج في دقائق بجودة عالية وألوان زاهية.
لم تعد هناك حاجة للخطاط الذي كان يقضي ساعات طويلة في إعداد لافتة واحدة. كل شيء أصبح آليًا وسريعًا، ولم يعد هناك تقدير للفن اليدوي كما كان في السابق".
ويرى أن الذكاء الاصطناعي زاد من سرعة هذا التحول، إذ أصبح بإمكان المرشح إنتاج تصاميم وشعارات دعائية كاملة بضغطة زر، دون الحاجة إلى أي تدخل بشري، ويضيف أن هذا التطور رغم فوائده وسرعته، إلا أنه أفقد المشهد الانتخابي جزءًا من جماله الإنساني، ذلك الجمال الذي كان يُصنع باليد، بخطوط حقيقية وألوان تمزج بين الفن والعاطفة والانتماء.
رسامو الانتخابات.. مهنة اختفت تحت ألوان الذكاء الاصطناعيمع كل موسم انتخابي، تعود إلى الأذهان مشاهد كانت يومًا ما جزءًا أصيلًا من الحملات البرلمانية في مصر، حين كانت الشوارع والحوائط تمتلئ برسومات المرشحين التي يبدعها الفنانون بخطوطهم وألوانهم المميزة.
كانت مهنة "الرسام الانتخابي" من أكثر المهن حضورًا في تلك الفترة، لكنها سرعان ما اندثرت مع التطور التكنولوجي المتسارع، وظهور أدوات رقمية جديدة قادها الذكاء الاصطناعي، غيّرت شكل الدعاية الانتخابية بالكامل.
		يقول أحمد خليفة، مصمم جرافيك، إن الرسامين كانوا جزءًا من طقوس الانتخابات في القرى والنجوع، يلتفون حول جدران المنازل ومداخل القرى ليضعوا عليها صور المرشحين ورموزهم الانتخابية بخط اليد وألوان الزيت أو الطلاء.
		ويضيف: "زمان كان الرسام يرسم صورة المرشح على القماش، ثم يكررها على الحيطان في القرى والأحياء، وكان العمل يستغرق ساعات طويلة ودقة كبيرة، كانت الناس تتابع الرسام وهو يرسم، وكأنها تشاهد عرضًا فنيًا حيًا في قلب الشارع".
		ويتابع خليفة أن تلك الرسومات كانت تحمل طابعًا إنسانيًا وجماليًا خاصًا، إذ كانت تعكس أسلوب كل فنان وطريقته في التعبير، كما كانت وسيلة فعّالة لتعريف الناس بالمرشح ورمزه الانتخابي، خاصة في المناطق الريفية التي لم تكن تعرف وسائل الدعاية الحديثة.
		ويقول إن هذه المهنة بدأت تتراجع تدريجيًا مع ظهور برامج التصميم الإلكترونية والطباعة الحديثة، حتى اختفت تقريبًا مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى مجال الدعاية.
ويضيف: "اليوم، لم يعد أحد يحتاج إلى الرسام كما في الماضي، فبضغطة زر يمكن إنتاج صور للمرشح بدقة عالية وجودة تفوق أي عمل يدوي، بل ويمكن تصميم ملصقات كاملة بالرمز الانتخابي والألوان المطلوبة في دقائق معدودة عبر الإنترنت".
		ويرى خليفة أن الذكاء الاصطناعي غيّر مفهوم الإبداع في الحملات الانتخابية، فبعد أن كان العمل الفني يصنع يدويًا بروح الفنان وإحساسه، أصبح يُنتج رقميًا بسرعة كبيرة، ما أفقد المشهد جزءًا من دفئه الإنساني وبساطته القديمة.
		ورغم ذلك، تبقى رسومات الجداريات الانتخابية شاهدًا على حقبة جميلة من تاريخ الانتخابات في مصر، حين كان الفن والشارع يتناغمان في لوحة واحدة تنطق بالألوان والانتماء.
 
							
                         
                         
                                 
                                     
                     
						 
						 
						 
                     
						 
						 
						 
						 
             
                         
                         
                         
                         
                         
                         
                        