تحت قبة البرلمان، وفي اليوم الأول من دور الانعقاد العادي السادس، لم يكن المشهد عادياً لبداية دور انعقاد جديد، بل كان استثنائياً بكل المقاييس. فالمشهد بدا ملتقى لثلاث رسائل أساسية تحمل دلالات عميقة.. أولها، ملاحظات رئاسية محددة على عدد من مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية، جاءت لتعكس إعلاءً لمصلحة المواطن وحقوقه وحرياته، ولترسيخ دعائم العدالة بكافة صورها، وثانيها كلمة هامة للمستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس المجلس، عكست التزاماً راسخاً بالمسؤولية الوطنية للمجلس، وثالثها بيان حكومي للدكتور مصطفى مدبولي أكد فيه حرص الحكومة على الشراكة والتكامل مع البرلمان، بما يضمن صدور تشريعات متوازنة ودقيقة.
هذا المشهد، وهذه الرسائل الثلاث، لا يمكن اختزالها في مجرد وقائع جلسة افتتاحية، وإنما تكتب في مجموعها "وثيقة جديدة" في مسار الحوار التشريعي بين السلطات.. وثيقة لا تُصاغ فقط عبر نصوص قانونية جامدة، وإنما من خلال مفردات مشتركة ومتكررة حملتها الرسائل الثلاث: القانون، العدالة، الضمانات، المصلحة العامة، والتكامل أيضاً.
هذه المفردات لم ترد صدفة، بل جاءت لتصوغ قاموساً تشريعياً وسياسياً متجدداً يعكس طبيعة المرحلة، ويجسد روح الجمهورية الجديدة التي تقوم على التوازن بين السلطات.
هذا "التكامل"، لا يأتي كشعار إنشائي أو تعبير بروتوكولي، بل يتجسد عملياً في لحظة دقيقة، ففي ختام الفصل التشريعي الثاني، يبدأ البرلمان دور انعقاد جديد، واضعاً على جدول أعماله مشروع قانون من أكثر القوانين حساسية وتأثيراً في حياة المواطنين، لارتباطه المباشر بحقوقهم وحرياتهم وضمانات العدالة، وهو ما يؤكد أن الحوار بين المؤسسات لم يعد ترفاً سياسياً، ولا إجراء شكلياً، بل ضرورة حقيقية لصياغة تشريعات أكثر عدلاً وإنصافاً، تستند إلى القانون والدستور، وتستجيب لتحديات الواقع العملي.
في هذه العملية التشاركية، جاءت كلمات المستشار الدكتور حنفي جبالي لتؤكد أن ملاحظات الرئيس عبد الفتاح السيسي ليست رفضاً لمشروع القانون، بل مراجعة لثماني مواد فقط من أصل مئات المواد، والهدف من هذه المراجعة هو زيادة الدقة، وإزالة الغموض، وضمان التطبيق الواضح للقانون بما يعزز من حقوق المواطنين وحرياتهم.. وهنا يظهر بوضوح أن العلاقة بين المؤسسات لم تعد علاقة "موافقة وتمرير"، كما يروج البعض، وإنما شراكة كاملة في صياغة التشريع، فالرئيس حين استخدم حقه الدستوري في الاعتراض، كان يعيد فتح باب الحوار لضمان اتساق النصوص مع معايير العدالة، بينما تعامل البرلمان والحكومة مع الاعتراض كفرصة لتعزيز الثقة في منظومة العدالة، لا كونه خلافاً أو تضارباً في الصلاحيات.
ويحسب لهذه اللحظة أيضاً، أن ملاحظات رئيس الجمهورية على ثماني مواد فقط من مشروع القانون يسجل كـ "سابقة برلمانية ثالثة" في تاريخ الحياة النيابية المصرية، فيما عكست مناقشات اللجنة العامة مع الحكومة حول هذه المواد أن الحوار التشريعي لم يعد إجراءً شكلياً، بل ممارسة مؤسسية تُدار بروح من المسؤولية المشتركة.
في المحصلة.
قد يبدو مشروع قانون الإجراءات الجنائية مجرد نص تشريعي جديد، لكنه يمثل ما هو أبعد من ذلك، فهو وثيقة تعكس طريقة التفاعل بين مؤسسات الدولة أكثر مما تعكس تفاصيل مواده .. فالملاحظات الرئاسية المحدود، والرد البرلماني المسؤول، والتأكيد الحكومي على الشراكة، كلها تؤسس لنموذج مختلف في صناعة التشريع، يقوم على التوازن والشفافية بدلاً من الانفراد والمغالبة.
وهو ما يعكس أن مستقبل التشريع في مصر يُكتب بروح من التكامل بين المؤسسات.