الآن، عندما تسير في أي شارع أو تركب مواصلات عامة أو حتى تجلس في بيتك، ستلاحظ مشهدًا بات مألوفًا، وهو العيون المعلّقة بالشاشات، والأصابع التى لا تتوقف عن التمرير أو الضغط، فالأب مشغول بهاتفه، والأم تتابع مواقع التواصل، والطفل ممسك بجهازه الإلكتروني سواء كان تابلت أو هاتف يلعب عليه لعبة إلكترونية لا تنتهي، حيث أصبح الكل حاضر جسديًا، لكنه غائب ذهنيًا في عالم افتراضي يشغلهم .
البيوت المصرية حاليًا باتت تخلو من أصوات الحوار والنقاشات العائلية، وأصبح يغلب عليها أصوات إطلاق النار من لعبة "بابجي"، أو موسيقى متقطعة من لعبة "كاندي كراش"، أو ربما صراخ طفل خسر للتو مستوى مهم فى لعبة يلعبها، فالطفل الذي كان يلعب الكرة في الشارع، أصبح الآن يصوّب بندقية افتراضية على خصم مجهول في لعبة إلكترونية، والشاب الذي كان يخرج مع أصدقائه، بات يقضي ساعات أمام الشاشة، يصطاد "أعداء وهميين" ويتنافس على نقاط زائفة.
السؤال لم يعد الآن، من يمارس الألعاب الإلكترونية؟، بل أصبح من لا يمارسها؟، فمن أصغر طفل لا يتجاوز الخامسة من عمره إلى الجدّ الجميع منشغل بالشاشات، وكأننا في سباق يومي مع العالم الافتراضي، كلٌ في عالمه، منفصل عن الآخر، والواقع أصبح شيئًا يُؤجَّل لحين انتهاء "الجيم".
ولكن، في الوقت الذى أصبحت فيه الألعاب الإلكترونية وسيلة التسلية الأولى للصغار والكبار، تتصاعد المخاوف بشأن تأثيرها على الصحة النفسية، والعلاقات الاجتماعية، والسلوك اليومي للأفراد، خاصة مع زيادة معدلات الممارسة ووصولها لأرقام مثيرة للانتباه.
وفي ظل هذا المشهد الذى باتت فيه الألعاب الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من حياة فئات واسعة من المجتمع المصري، خصوصًا الأطفال والشباب، يكشف برلمانى في انفراد جديد، وفقا لمسح حديث أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بشأن ممارسة النشاط الرياضى للأسر المصرية، أرقامًا صادمة توثق هذا الانغماس العميق في الألعاب الإلكترونية.
كشف مسح جهاز الإحصاء، والذى انفرد برلمانى بنشر الجزء الأول منه في شهر مايو الماضى تحت عنوان: "الرياضة في مصر.. لأول مرة.. مسح وطني يكشف أرقامًا صادمة عن ممارسة النشاط.. 95.8% من المصريين خارج الأندية ومراكز الشباب.. الألعاب الإلكترونية تتصدر.. والدولة تتحرك لتعزيز الواقع ومعالجة نقاط الضعف"، أن حوالي ثلث سكان مصر "5 سنوات فأكثر" يمارسون الألعاب الإلكترونية بنسبة بلغت 30.5%، فيما سجلت نسبة الذكور 35.1%، مقابل 25.6% للإناث، وشهدت المدن الحضرية ارتفاعًا ملحوظًا في معدل الممارسة، حيث بلغت النسبة 35%، مقابل 27% في الريف، وهو ما قد يعكس الفروق في توافر الأجهزة وخدمات الإنترنت بين المناطق.
وبحسب الأرقام والمؤشرات التى كشفها الجهاز في المسح الرياضى، تصدّرت الفئة العمرية من 10 إلى 24 عامًا نسب الممارسة بمعدلات تراوحت بين 45% إلى 49%، بينما بدأت النسب في الانخفاض تدريجيًا مع تقدم العمر، حيث لم تتجاوز 10% بين الفئة من 50 إلى 64 عامًا، وسجلت 3.7% فقط لمن هم فوق الـ65 عامًا.
وعلى مستوى النوع، حافظ الذكور على النسب الأعلى في جميع الفئات العمرية، وبلغت الذروة في فئة 15-19 سنة بنسبة 56.9% للذكور مقابل 42% للإناث، كما أظهرت البيانات تفوق سكان الحضر على الريف في نسب ممارسة الألعاب.
كما أشار المسح الإحصائى، إلى إنه عند تقسيم السكان إلى فئات عمرية عريضة، ظهر أن الأطفال "5-17 سنة" هم الفئة الأكثر ممارسة للألعاب بنسبة 43.5%، يليهم الشباب "18-39 سنة" بنسبة 34.8%، وبطبيعة الحال، تقل النسب مع التقدم في السن.
وفى مفارقة لافتة أظهرتها البيانات، تبين أن الأشخاص الذين يمارسون الرياضة هم أيضًا الأكثر استخدامًا للألعاب الإلكترونية، إذ بلغت نسبة الممارسة لديهم 53%، مقابل 22.9% فقط لمن لا يمارسون الرياضة.
وتكررت هذه النسبة المرتفعة في فئة الأطفال "5-17 سنة" حيث وصلت إلى 53.4% للممارسين للرياضة، مقابل 32.3% لغير الممارسين، مما يشير إلى أن الألعاب لا تعد بديلًا عن النشاط البدني لدى هذه الفئة، بل مكملًا له أحيانًا.
كما أشار المسح إلى أرقام مهمة حول عدد الساعات اليومية التي يقضيها اللاعبون أمام الشاشات، فقد أظهرت النتائج أن أغلب المستخدمين بنسبة 46.8% يمارسون الألعاب لأقل من ساعة يوميًا، يليهم من يلعبون بين ساعة وساعتين بنسبة 39.2%، أما من تتراوح مدة ممارستهم بين ساعتين إلى ثلاث، فبلغت نسبتهم 10%، بينما اقتصرت أعلى مدة وهي ثلاث ساعات فأكثر على 3.9% فقط من المستخدمين.
وبينما كانت الإناث أكثر ميولًا للممارسة لفترات قصيرة "48.8% لأقل من ساعة"، كان الذكور أكثر انخراطًا في الألعاب لفترات تتجاوز الساعة، مما يعكس أنماطًا مختلفة في الاستخدام بين الجنسين.
وفى النهاية، تشير هذه الإحصاءات إلى واقع متنامٍ لممارسة الألعاب الإلكترونية في مصر، خاصة بين الأطفال والشباب وسكان الحضر، وبينما يمكن النظر إليها كوسيلة ترفيهية وتفاعلية تعزز بعض المهارات، إلا أن الإفراط في استخدامها – خاصة دون رقابة – قد يقود إلى انعكاسات سلبية على الصحة والسلوك.
وعليه، تصبح مسؤولية الأسرة والمدرسة والمجتمع تكمن في توجيه الاستخدام، ووضع حدود زمنية آمنة، وتقديم بدائل فعالة للترفيه والنشاط، بما يضمن تحقيق التوازن بين العالم الافتراضي والواقعي.