غدًا، ومع إشراقة أول أيام شهر محرم، يستبدل بيت الله الحرام كسوته في مراسم مهيبة يتابعها المسلمون حول العالم بقلوب خاشعة وأنظار مترقبة.
في لحظة تفيض بالروحانية والإجلال، تُرفع الكسوة الجديدة لتغطي الكعبة المشرفة، في مشهد يختزل الإبداع الإنساني والخشوع الديني في آنٍ واحد.
"اليوم السابع" رافق مراحل صناعة هذا الثوب المقدس، ووثّق تفاصيل دقيقة من داخل مصنع كسوة الكعبة المشرفة، الواقع في مجمع الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة، حيث يعمل أكثر من 200 صانع وفني سعودي، يشكلون خلية نحل لا تهدأ، وتُدار عملية الإنتاج بخبرات متراكمة وتقنيات حديثة.
الكسوة الجديدة صُنعت بالكامل من أفخر أنواع الحرير الطبيعي الخالص، والذي يُصبغ يدويًا باللون الأسود المميز، وتبلغ كميته المستخدمة نحو 670 كيلوجرامًا.
أما الوزن الإجمالي للكسوة فيصل إلى 850 كيلوجرامًا، تشمل 120 كيلوجرامًا من خيوط الذهب، وأكثر من 100 كيلوجرام من خيوط الفضة.
تتكوّن الكسوة من 47 قطعة من القماش، يبلغ عرض كل منها 98 سنتيمترًا، وتُخاط معًا بدقة لتغطي الجوانب الأربعة للكعبة، بارتفاع يصل إلى 14 مترًا.
وفي قلب كل قطعة، تتلألأ 54 تطريزة مذهبة من آيات القرآن الكريم، من بينها "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وتعبيرات روحانية تعبّر عن قدسية البيت الحرام.
الحزام الذي يلتف أعلى الكعبة يُطرز بالكامل بخيوط الذهب الخالص، ويصل طوله الإجمالي إلى أكثر من 45 مترًا. يُثبت هذا الحزام بإتقان بالغ، ليضفي على الكسوة مظهرًا جماليًا مهيبًا، يستوقف الزوار والمعتمرين.
عملية التصنيع تمر بمراحل دقيقة تبدأ بصباغة الحرير، تليها النسج الآلي عبر ماكينات متطورة أبرزها ماكينة "الجاكارد"، التي تتيح حياكة الآيات والزخارف الإسلامية بأعلى درجات الدقة.
بعد ذلك، تنتقل الكسوة إلى مرحلة التطريز اليدوي، حيث تتكامل فيها المهارة البشرية مع الفنون الإسلامية الرفيعة، في واحدة من أدق المراحل وأكثرها تعقيدًا.
أبرز أجزاء الكسوة وأكثرها لفتًا للأنظار هي "البرقع"، الستارة الخارجية التي تُثبت على باب الكعبة.
يتم إعداد هذه الستارة بشكل منفصل، وتُطرز عليها أدعية وأسماء ملك المملكة العربية السعودية، ويتم تركيبها بعناية خاصة، نظرًا لموقعها المركزي أمام أعين المصلين والطائفين.
خلال جولتنا داخل المصنع، وقفنا أمام أكبر ماكينة خياطة في العالم، بطول يصل إلى 16 مترًا وتُدار إلكترونيًا.
إلى جانبها، تنتشر ماكينات خاصة بالتطريز والنقش، تكمل مراحل العمل الدقيقة، ورغم تطور التكنولوجيا، فإن اللمسة اليدوية لا تغيب، حيث تُضاف في كل خطوة تقريبًا لضمان أعلى مستويات الجودة والإتقان.
استغرق إعداد الكسوة الجديدة نحو 10 أشهر من العمل المتواصل، بإشراف خبراء وفنيين محليين، يؤكدون أن شرف المشاركة في هذا العمل ليس وظيفة فقط، بل مسؤولية روحية وشرف ديني.
أحد الفنيين قال لنا: "نشعر أننا نخيط ثوبًا للسماء، هذا ليس مجرد قماش، بل رسالة من مكة إلى العالم".
ومع بزوغ فجر الغد، تبدأ مراسم الاستبدال بإشراف لجنة فنية متخصصة، تُزال أجزاء من الكسوة القديمة تدريجيًا، بينما تُرفع الجوانب الأربعة للكسوة الجديدة باستخدام رافعات ميكانيكية دقيقة، إلى أن تُغطى الكعبة بالكامل، وتُختتم المراسم بتركيب "البرقع" الذهبي على الباب، في لحظة تجمع بين الإتقان الحرفي والخشوع الديني.
استبدال الكسوة ليس مجرد حدث صناعي، بل هو إعلان سنوي عن العناية البالغة التي توليها المملكة العربية السعودية بالحرمين الشريفين، وحرصها الدائم على أن تبقى الكعبة في أبهى حلة، تجسيدًا لمكانتها في قلوب أكثر من مليار مسلم حول العالم.
ليست الكسوة مجرد نسيج فاخر أو تحفة فنية، بل هي تجسيد بصري لجلال المكان وقدسيته، وعلامة على عمق العلاقة بين المسلمين وأقدس بقاع الأرض، حيث تهفو القلوب وتذوب الأرواح في حضرة البيت العتيق.