بعد مرور 75 سنة على سن تشريع قانون الإجراءات الجنائية، يشهد حالياً نقلة نوعية تشريعية غير مسبوقة – بحسب نواب ونقابيين وسياسيين وغيرهم شاركوا في مراجعة مشروع القانون الجديد - وفي لحظة تشريعية فارقة، شهدت الجلسة الختامية لمجلس النواب فى مناقشته لمشروع قانون الإجراءات الجنائية، إجماعا وتأكيدا على أن القانون الجديد يمثل تحولاً تاريخياً في منظومة العدالة الجنائية، وجاء ثمرة حوار مجتمعي واسع، شاركت فيه كافة الأطراف المعنية، وعلى رأسها نقابة المحامين والمجلس القومي لحقوق الإنسان.
مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد حظي بأكبر قدر من الاهتمام في تاريخ التشريع البرلماني، واستغرقت اللجنة الفرعية في إعداده أكثر من 14 شهراً بمشاركة جميع الجهات المعنية سواء المعنية بملف حقوق الانسان أو العدالة الجنائية، فقد جاءت كلمات أعضاء اللجنة الفرعية التي أعدت مشروع القانون، لتؤكد أن هذا التشريع ليس مجرد تعديل تقني، بل هو تجسيد عملى لدستور يُصغى لصوت المواطن، ويستجيب لنداءات الإصلاح العادل، ومطبقا لمعايير ومباديء حقوق الإنسان.
مشروع قانون الإجراءات الجنائية بين التطبيق والتأويل
ويستهدف مشروع القانون تحقيق العدالة الناجزة، وهو ما يوفر ضمانات أكبر للمتقاضين في عدالة منصفة ومحاكمة عادلة، وضمانات لحق الدفاع، بما يصب في صالح المتقاضين، كما أنه يعد نقلة نوعية فى كفالة ضمانات حقوق الإنسان فيما يخص تيسير إجراءات التقاضي وإنجاز الدعاوى دون إخلال بقواعد المحاكمة المنصفة وحقوق الدفاع.
حماية لحرمة المنازل وتعويض عن الحبس الخاطئ.. تعديلات قانونية تعزز ضمانات العدالة
وفى هذا الشأن - يقول أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض علاء مبروك – أن مشروع القانون نص صراحة على أن للمنازل حرمة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها، إلا بأمر قضائي مسبب يحدد المكان والتوقيت والغرض منه، وإضافة قيود على اختصاصات مأموري الضبط القضائي في أحوال القبض وتفتيش المواطنين ودخول المنازل وتفتيشها، والتأكيد على اختصاص النيابة العامة الأصيل في تحقيق وتحريك ومباشرة الدعوى الجنائية، والحفاظ على الطبيعة الاحترازية الوقائية للحبس الاحتياطي وغايته سلامة التحقيقات، من خلال تخفيض مدده ووضع حد أقصى له، واشتراط أن يكون الأمر بالحبس الاحتياطي مسبباً، وإقرار تعويض معنوي وأدبي عن الحبس الاحتياطي الخاطئ بإلزام النيابة العامة بنشر كل حكم بات ببراءة من سبق حبسه احتياطياً وكل أمر صادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قبله في جريدتين يوميتين واسعتي الانتشار على نفقة الحكومة، فضلا عن وضع تنظيم متكامل ومنضبط لحالات التعويض المادي عن الحبس الاحتياطي.
مشروع قانون جديد لتنظيم الإعلانات القضائية رقميًا وتشديد ضوابط المنع من السفر
وبحسب "مبروك" في تصريح لـ"برلماني": ويتضمن مشروع القانون تنظيم وضع تنظيم متكامل لنظم الإعلان بما يواكب تطور الدولة نحو التحول الرقمي بجانب الإعلان التقليدي، وإنشاء مركز للإعلانات الهاتفية بدائرة كل محكمة جزئية يتبع وزارة العدل، ومتصل بقطاع الأحوال المدنية لإرسال الإعلانات الهاتفية والإلكترونية، مما يحقق طفرة في نظام الإعلان القضائي في مصر، بالإضافة إلى مجابهة ظاهرة تشابه الأسماء من خلال إلزام مأموري الضبط القضائي بإثبات بيانات الرقم القومي للمتهم فور تحديد هويته، وإلزام النيابة العامة عند حضور المتهم لأول مرة في التحقيق أن يدون جميع البيانات الخاصة بإثبات شخصيته، وكذلك تقييد سلطة أوامر المنع من السفر والإدراج على قوائم ترقب الوصول، ليكون من اختصاص النائب العام أو من يفوضه، أو قاضي التحقيق المختص، واشترط أن يصدر أمر المنع مسبباً ولمدة محددة، وتم تنظيم آلية التظلم من هذه الأوامر أمام المحكمة المختصة، وحدد مدة للفصل في هذا التظلم بما لا تجاوز 15 يوماً من تاريخ التقرير به.
محاكمة عن بُعد وضمان محامٍ لكل متهم.. مشروع قانون يرسخ العدالة الرقمية في مصر
ووفقا لـ"مبروك": كما يستهدف مشروع القانون تنظيم حالات وإجراءات التحقيق والمحاكمة عن بُعد وفقاً للتقنيات الحديثة بما يضمن تبسيط إجراءات التقاضي وتحقيق العدالة الناجزة، وتوفير حماية قانونية فعالة للشهود والمبلغين والخبراء والمجني عليهم والمتهمين، وإضفاء مزيد من الضمانات لحق الدفاع من خلال إقرار مبدأ لا محاكمة من غير محام بما يتيح أن يكون لكل متهم محام حاضر معه وفي حالة عدم وجود محام ألزم مشروع القانون سلطة التحقيق أو المحاكمة، بأن تندب محامياً للدفاع عن المتهم في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة، وتفعيل حماية لحقوق المرأة والطفل.
أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض علاء مبروك
وفى سياق أخر – تقول الخبير القانوني والمحامية نعمة مصطفى - مسألة تمرير والموافقة النهائية علي مشروع قانون الاجراءات الجنائية الجديد المقدم من الحكومة يحتاج إلى مراجعة مرة أخرى، حيث أن هذا المشروع "محل نظر"، لأن فيه مخالفة دستورية صريحة في بعض مواده تارة تحت شعار التطور التكنولوجي بالمحاكمة عن بعد، وتارة أخري في التحايل علي النص الدستوري في التعويض عن الحبس الاحتياطي وإهداره بنص يقيد هذا الحق، والكثير من النصوص الأخري الغير دستورية، حيث أن هذا القانون يضرب العدالة الجنائية في مقتل بالتوازي مع قرارات من رؤساء محاكم الاستئناف برسوم قضائية علي المواطنين في لجوئهم للتقاضي والاعتداء علي حق دستوري أصيل في كفالة حق التقاضي بدون قيود وأعباء مالية علي المواطن في الاستغاثة بالقضاء لحل النزاعات في دولة تحكمها سيادة القانون بديلا عن الحلول العرفية الظالمة - فالعدالة ليست ترفاً - هي قلب الدولة النابض وصوت الشعب والناطق بإسمه، كما تنطق أحكامه وهي صمّام الأمان ضد الفوضى، وهي السلاح الذي يردع الظلم، قبل أن يُنبت عنفاً.
10 ملاحظات يجب مراعاتها
وتضيف "مصطفى" في تصريحات صحفية: المشروع لم يلبى الطموحات المتوخاة منه، حتى وأن تم الاستجابة لبعض المقترحات والتعديلات التي أبداها بعض رجال القانون والنقابات علي هذا المشروع ، إلا أن المشروع الأخير لم يتضمن بعض الملاحظات والمقترحات، ومنها التوسع في منح الضبطية القضائية بالإبقاء على النص في القانون القائم، كما أجاز المشروع لسلطة التحقيق ندب مأموري الضبط القضائي - علي اختلاف قدراتهم وتنوع مستوياتهم - لمباشرة اجراءات التحقيق، وهو الأمر الذي يعزز من هيمنة السلطة التنفيذية، وكذلك منح النيابة العامة سلطة واسعة باجراء تسجيلات للأحاديث التي تجري في مكان خاص، وذلك بالمخالفة للمبدأ الدستوري المقرر بنص المادة "57" من الدستور بحرمة الحياة الخاصة للإنسان .
وتابعت "مصطفى": تضمن المشروع تضييق نطاق الحبس في الجرائم المتعلقة بحرية التعبير عن الرأي وما يتفرع عنها من حقوق أخري مكفولة دستورياً، وكذا الأمر بالنسبة لمسألة الحبس الاحتياطي في حالة تعدد الجرائم وتعاصرها "التدوير"، والإكتفاء بالحبس في واحدة منها فقط لما يحققه من مقصود المشرع في هذا الاجراء، كذلك فقد أكتفي المشروع بذات بدائل الحبس المقررة في القانون القائم، دون أن يعني بتعزيزها ببدائل أخري، كفرض المراقبة الاليكترونية "الأسورة"، أو تأدية الخدمة العامة في إحدي الجهات التي ترعاها الدولة، أو توسيع نطاق الكفالة المالية دون مجاوزة في مقدارها.
المادة الخاصة بالتعويض عن الحبس
واستطردت الخبير القاننونى: والمادة الخاصة بالتعويض عن الحبس كان يتعين أن تتناول كافة عناصر التعويض المقررة قانوناً، وأن يشمل التعويض الخسارة المحققة والكسب الفائت، ولم يتضمن المشروع تعديل في بعض المواد من اعتبار الأحكام الغيابية في الجنح حضورية، علي سند من تمام إعلان الخصم بورقة التكليف بالحضور، مغفلة بذلك ما يحدث أحيانا من تلاعب في الإعلانات بما يحرم المتهم من درجة من درجات التقاضي، وكذلك استحداث نصا، إذ جعلت الحكم الغيابي واجب النفاذ مرتبة عليه آثار وعواقب وخيمة تنأي عن المنطق القانوني السائغ.
وأوضحت: ولم يتضمن المشروع تعديل المادة "401" التي أجازت للنيابة العامة استئناف الاحكام الغيابية الصادرة في مواد الجنايات، وهو الأمر الذي ينطوي من جهة علي إخلال جسيم بحقوق المتهم والدفاع، مغفلة أن الحكم الغيابي هو حكم تهديدي وأن استئناف النيابة العامة له والفصل في استئنافها يجعل منه حكما نهائياً بما يخل بنظام العدالة الجنائية بحرمان المتهم من درجة من درجات التقاضي رغماً عن إرادته .