سجون الاحتلال
- محمد الطوس: طعامنا لا يكفى عصفورا.. قالوا لنا انتظروا حتى تموتوا حينها فقط نأتى لعلاجكم.. وكان يطلقون الكلاب لتدوس على رؤوسنا ونحن ننام على الأرض
- جعفر أبوحنانة: الموت كان أرحم.. لكنهم أرادوا لنا العيش على الحافة.. الجدران باردة أكثر من الموت.. فقدت 40 كجم فى 16 شهرا.. ووجوهنا تحولت لأشباح
- ناصر أبوحميد.. مات بين جدران السجن بسرطان الرئة الذى التهمه ببطء.. والاحتلال رفض تسليم جثمانه
- جاد معلا: كانوا يريدون أن ننهار أن نجنّ أن نشعر أننا بلا قيمة.. حتى تحولت لهيكل عظمى.. وعشت خلف الأسوار أكثر من عمرى فى الحرية
- محمد أبوالرب: أطلقوا علينا الكلاب وتركوا جرحى أياما يتعفنون.. وكنا نلتصق ببعضنا لنشعر بأى دفء
- محمود الردايدة: تعاملوا معنا بـ«سادية».. قهرونا لدرجة أنهم كانوا يضربوننا حينما نتألم.. وكانوا يستمتعون بتعصيب أعيننا وغرز الحديد فى أجسادنا حتى العظم
- سعيد شتيه: خرجت من السجن ولم يخرج من داخلى.. الرصاص فى رأسى أرحم من إهانات الاحتلال.. وأحيانا كنت أصرخ فقط لأتأكد أننى ما زلت أسمع صوتى
- محمد أبو حميد: عام ونصف العام بقطعة ملابس واحدة فراش لم يتغير طعام لا يصلح للبشر.. من شدة الجوع كنا نرى أجسادنا تتآكل حتى العظام.. أصابنا الجرب وتآكلت جلودنا حتى العظم.. وشاهدت شقيقى يتوجع بالسرطان ومات على يدى
- نائل ياسين: من شدة الضرب شعرت بعظامى تتفتت وكأنها زجاج هش.. وكانوا يتلذذون بصوت العظام تتصدع
- ربيع أبوالرب: سحبوا منا المصاحف.. وكانوا يشغلون موسيقى مزعجة كـ«إبر مسمومة» طوال الليل
«بعض الجحيم لا يحتاج إلى نار»، يكفى أن تُحرم من أبسط حقوقك الإنسانية، أن يكون الجوع رفيقك الدائم، والبرد جلادك الذى لا يرحم، أن تتحول زنازين الاحتلال الإسرائيلى إلى مقابر مفتوحة، ينتظر فيها الأسرى الفلسطينيون موتهم البطىء، دون أن يملكوا حتى حق الصراخ، أو كما قال محمود درويش: «وضعوا على فمه السلاسلْ.. ربطوا يديه بصخرة الموتى.. وقالوا: أنت قاتلْ!».
هذه الأبيات التى تُجسِّد لحظة تحويل الأسرى إلى رقم فى سجلٍّ لا يعترف بإنسانيتهم، رغم حقوقهم فى الحياة والوطن المقدس، وهم يهتفون «ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا»، لكن كيف للحياة يا «درويش» أن تجد سبيلها إلى زنازين ضىّقة تلتهم أنفاس ساكنيها؟
فى رحلة امتدت لشهور، اجتمعت بين يدىّ شهادات خمسة عشر أسيرا فلسطينيا، من الدفعات التى نالت الحرية، إبان إعلان اتفاق الهدنة وتبادل الأسرى بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية فى 15 يناير 2025، وحتى اليوم، سمعت خلالها من بعض الأسرى صوت الألم العميق الذى خرج من أعماق جدران السجون الباردة، فى حين تراجع آخرون بالأراضى المحتلة، عن الحديث وبعضهم أغلق هاتفه خوفا من أن يعيده ذلك إلى أزقة الاعتقال، بعد توقيعهم على إقرارات بعدم الإفصاح، وتعرضهم لتهديدات تكاد تسرق لهم بريق الحرية.
هنا، وسط هذا المسار المظلم، لم تكن الكلمات مجرد حروفٍ على ورق، بل كانت وصايا من إنسانٍ قضى سنوات طويلة فى العذاب، شاهدا على مدى التعذيب والإرهاق الذى لا يحتمل.. «الآن أنا خرجت من جهنم، خرجت من جهنم»، كانت هذه العبارة التى قالها أحد الأسرى المحررين، وهو يتنفس بسرعة شديدة، كافية لأن تكون عنوانا لهذا التقرير: «العائدون من جهنم»، هذه الكلمات القليلة حملت فى طياتها بحرا من الألم والمعاناة، ما دفعنى إلى استكمال هذا التقرير، لتسليط الضوء على ما عاشوه داخل تلك الجدران الباردة، حيث أشار لاحقا إلى أنه بالفعل كانت هناك لافتة داخل السجن، مكتوب عليها «أهلا بكم فى جهنم» خلال استقبالهم.
ظلام دائم داخل الزنازين
تأثرى بما سمعته من هؤلاء الأسرى كان عميقا، حيث حملت كل كلمة منهم وجعا لا يُوصف، فبعد حديثى مع أحدهم، فوجئت به يتصل بى، الساعة الرابعة فجرا، فقلت له «خيرا!»، قال لى بعدما أدرك أن التوقيت متأخر: «اعتذر يا أخى، كنا نعيش فى ظلام دائم، لا نعرف إن كان الوقت ليلا أم نهارا»، فقلت له «لا ليس عليك أن تعتذر».. مفرج عنه آخر تحدث عن كيف كانوا يُجبرونهم على النوم على أرضيات باردة، بلا فراش، بينما البرد يخترق عظامهم.
هذه الإفادات، لـ15أسيرا محررا، هى محاولة لتسليط الضوء على معاناة هؤلاء الأبطال، الذين صمدوا فى وجه الجحيم، بعضهم صمد ربع قرن، وآخرون 30 و40 عاما، إنهم يذكروننا بأهل الكهف، الذين اختاروا الظلام ليحافظوا على نور إيمانهم.. وهؤلاء الأسرى اختاروا الصمود فى وجه العذاب، ليحافظوا على قضيتهم وحريتهم.
«أبوشادى».. 40 عاما فى الجحيم
70 سنة - واجه حكمين بالمؤبد و20 سنة «218 عاما».. قضى منها 40 عاما فى الأسر.
فور خروجه من السجن، بعد 40 عاما فى الأسر، كان لنا أول لقاء حصرى وخاص مع «محمد الطوس «70 عاما»، المعروف بـ«أبوشادى» وعميد أسرى فلسطين، حيث كان يواجه حكمين بالمؤبد و20 سنة.. بدأ بحكاية سنواتٍ طويلة من السجن، حيث تحولت حياته إلى كابوسٍ مستمر، يقول بصوته الخافت الذى حمل بين ثناياه صدى الذكريات المؤلمة: «تخىّل معى زنزانة باردة، لا تعرف للدفء طريقها إليها، حيث الباب لم يتغير إلا 3 مرات، 3 مرات غيرت معانى الزمن بالنسبة لى.. دخلت السجن فى عام 1985، ومع مرور السنوات تبلورت صور العذاب فى كل زاوية.. كنت أُقيد بكلتا يدىَّ وبقدمىَّ، وأمضى أيامى فى انتظار تلك اللحظات البسيطة التى يُفكُّ فيها القيود قليلا لنحصل على قطعة من الطعام الباهت، الذى لا يكفى حتى لإشباع جوع عصفورٍ صغير.. كان الطعام بلا طعم ولا لون، وكأنه مجرد عقاب يُوزّع علينا بالجرام، لا يُرَوّينا من ظمأ الروح.. وفى تلك اللحظات التى كنا نُجبر فيها على الجلوس لأيام طويلة مكبلين بالقيود، يصير الهواء ثقيلا، وتتحول الأنفاس إلى شهقاتٍ مختنقة تحت وطأة الألم».
أما فى آخر عام ونصفٍ، فيقول: «بعد أحداث السابع من أكتوبر، كان السجان يهمس فى آذاننا: انتظروا حتى تموتوا، حينها فقط نأتى لعلاجكم.. كان الوهن والدوار يصيبنا كل يوم، حتى بدأت جلودنا بالتساقط.. أُخبرونا أننا فى ساحة حرب.. كانوا يقتحمون الغرف بكلاب بوليسية مدربة على الهجوم، وضُربنا بالخراطيم حتى أُخرجنا للساحات ننام على بطوننا، وتدوس الكلاب على أجسادنا ووجوهنا».
جعفر أبو حنانة.. الموت كان أرحم
(42 سنة - واجه حكما بالمؤبد «99 عام».. قضى منهم 21 سنة)
فى صوت جعفر فوزى أبو حنانة، «حكم بالمؤبد»، تتجلى صورة زنزانةٍ أخرى، حيث لا يوجد سوى البرد الذى يخترق كل جزء من جسدك، كأن الشتاء نفسه قد تحوّل إلى سلاحٍ قاتل.
يقول جعفر الذى قضى 21 عاما: «حين حل الشتاء، لم يعد لنا مأوى من البرد، كانت الزنزانة تتحول إلى ثلاجة مغلقة، لا نوافذ فيها ولا بطانيات تبقى على الدفء، كنت أرتدى ملابسٍ رقيقة لا تكفى لحماية جسدى من البرودة القارسة، وكان البرد ينخر عظامى كالإبر، كنت أنام متكورا على نفسى، أضم ركبتى إلى صدرى باحثا عن ذرة دفء، ولكن لا فائدة، الليل كان طويلا والعظام ترتجف بلا توقف، حتى الطعام، الذى كان يُقدم لنا كعقاب، تحول إلى حفنةٍ من الأرز اليابس، والمياه لم تعد تُشرب بل كانت تُعتبر جزءا من معاناتنا المستمرة».
يستمر جعفر قائلا، وبصوت يختلط فيه الألم بالمرارة: «لم نعد أسرى، أصبحنا جثثا مؤجلة، فقد قرر الاحتلال ألا يدفننا أبدا، بل يتركنا نعيش على حافة الموت، كنا 18 أسيرا فى غرفة ثلاثة فى سبعة أمتار، حيث كل يومٍ كان يمثل معركة مع الألم، ومع كل ضربة وكل قطرة جوع، كان جسدى يفقد قوته شيئا فشيئا، حتى أدركت أننى كنت أذوب ببطء، كأنهم يريدوننا أن نحيا على حافة الموت، نتنفس ولكننا لا نحيا».
ويضيف: «الموت كان أرحم.. لكنهم أرادوا لنا العيش على الحافة، والجدران باردة أكثر من الموت.. ووجوهنا تحولت لأشباح، فقد فقدت 40 كجم فى 16 شهرا، والبرد كان يدخل عظامنا كالإبر، وجسدى كان يتقلص من شدة البرد، وتركونا على الهاوية حيث الجوع لا يقتلك والموت أسهل من الحياة.. كانوا يطعموننا لا للعيش بل لنبقى على حافة الموت».
أبوخضير.. 150 يوما من العذاب
46 عاما - 23 عاما فى الأسر» حكم عليه بـ«11 مؤبدا و50 عاما - 1140 سنة»
بعد السابع من أكتوبر، خضع المعتقلون لنظام عقاب جماعى لم يعرف له التاريخ الحديث مثيلا، حيث أفاد الأسير المحرر أحمد أبوخضير «46 عاما - 23 عاما فى الأسر» حكم عليه بـ«11 مؤبدا و50 عاما - 1140 سنة»، أنه تم تقييد الأسرى من أيديهم وأقدامهم، وأجبروا على الجلوس بوضعية القرفصاء لساعات وأيام، وأسابيع، كانت القيود تظل مشدودة على المعصمين والكاحلين، حتى تنغرس فى الجلد وتتسبب فى جروح دامية وتعفن يصيب اللحم، كانت القيود أحيانا تُرخى للحظات، لكنها تعاد بعدها بإحكام أشد، وكأنها حلقة جديدة فى مسلسل العذاب.
وبحسب «أبوخضير»، مثلت هذه السياسات، فى تقييد الأسرى بطريقة تسمى «الشبح»، من خلال تقيديهم من أيديهم وأقدامهم لفترات طويلة، تصل أحيانا إلى 150 يوما، وطريقة أخرى تسمى «البورش»، حيث يُربط الأسير بسريره، لمدة أسبوعين متتاليين.
لكن ما هو أبشع من القيد، هو تلك اللحظات التى تحولت فيها الكلاب البوليسية إلى أداة تعذيب، حيث يقول أبوخضير: «كنت أسمع صراخ الأسرى فى الزنازين المجاورة، وأشاهدهم مقيدى اليدين والقدمين، أجبروهم على الجلوس بوضعية القرفصاء، ثم أدخلوا الكلب إلى الغرفة.. فى البداية، كان الكلب ينبح، ثم بدأ يقترب منهم.. كانوا عاجزين عن الحركة، كان الجنود يضحكون، يشجعون كلابهم، لتقترب منهم أكثر وأكثر حتى فقدوا السيطرة على أجسادهم وحوصروا فى أكثر كوابيسهم رعبا والكلاب تغتصبهم بتحسس مناطق حساسة».
جاد معلا.. الشمس كانت رمزا بأننا ما زلنا أحياء
47 عاما.. قضى منها 24 عاما - وواجه حكما بالمؤبد
الأسير المحرر جاد معلا، قالها دون أن يرتجف صوته، دون أن يعتريه الحزن، وكأنه يروى تفاصيل رحلة فرضت عليه لكنه خرج منها أكثر صلابة.
وصف لنا كيف كان الطعام يُوزَّع بالجرامات، وكان الجوع سلاحا بطيئا ومُمنهجا، يُستخدم لتحطيم الروح قبل الجسد، وكيف تحوَّل جسده إلى هيكل عظمى بعد أن فقد 33 كيلوجراما من وزنه، حيث يقول «كنا نعيش على 100 جرام أرز يوميا، وخبز بالكاد يسد الرمق. الفواكه؟ كانت حلما بعيدا لم نره طوال أشهر».
لكنه لم يتوقف عند الجوع، فالألم كان له طبقات، فيضيف: «فى السجون الإسرائيلية، لا يقتصر التعذيب على الجسد، بل يمتد ليصل الروح. كان الحرمان من الشمس تعذيبا بطيئا، لأشهر، لم أرَ السماء. وعندما سمحوا لنا بنظرة، كانت الشمس تلسع كأنها تذكرنا أننا ما زلنا أحياء رغم محاولاتهم قتلنا نفسيا قبل أجسادنا.. الشمس كانت رمزا بأننا ما زلنا أحياء.. كانوا يريدون أن ننهار، أن نجنّ، أن نشعر أننا بلا قيمة.. عشت خلف الاسوار أكثر من عمرى فى الحرية والآن رجعت من جهنم».
عبدالكريم عويس.. والدهس على الوجوه
«53 عاما.. 23 عاما فى الأسر.. واجه 5 أحكام بالمؤبد 495 عاما»
عبدالكريم عويس، يواجه العالم بشهادته الصادمة عن سنوات الأسر، بعد أن حُكِم عليه بـ5 مؤبدات بلغ مجموعها 495 عاما، فى حديثه، يستعيد ذكريات التعذيب الممنهج: «اقتحم جنود الاحتلال الزنزانة ذات مرة، وانهالوا بالضرب على قفصى الصدرى حتى كُسِرت أضلاعى، ثم عرَّجوا على قدمىَّ ليكسروها، فبقيت شهرا كاملا بلا علاج وبلا حراك».
يصف عويس لحظة فارقة فى معاناته حين دُفع هو ورفاقه أرضا، ووضع الجنود أقفالهم على ظهورهم، قبل أن يُهرع أحد الحراس ليدوس برجله على رأس أحد المُعتقلين: «سمعتُ صوت طقطقة أسنانه تتكسر.. وبعدها ظلت الدماء تنزف وهو يصرخ حتى الموت.. لم نكن نملك سوى إرادتنا».
محمود على الردايدة.. وسباق لكسر العظام
«52 سنة - حكم بالسّجن الـمؤبد و25 عاما، وقبع فى سجن ريمون 23 سنة
وفى غرفته، حيث ينير ضوء الصباح الباكر، رفع محمود على الردايدة « بدلة زرقاء باهتة عليها ختم عبرى واضح، ويقول: «هذه البدلة لم تخيطها أياد فلسطينية، بل حكتها أياد أرادت أن تذكرنا بأننا - حتى فى لحظة التحرير - لسنا أكثر من مجرد سجناء مؤقتين».
بعد 23 عاما فى الأسر، يكشف لنا أخطر 3 أيام فى حياته، حيث يقول: «لم نعرف أننا جزء من صفقة إلا بعد ثلاثة أيام من التعذيب.. أدخلونا إلى قسم جديد فى السجن، وفجأة رأينا شارة الصليب الأحمر، فى تلك اللحظة، انكسرت قشرة اليأس: الحمد لله، سنخرج! لكن الاحتلال لم يتركنا حتى فى اللحظة الأخيرة، ألبسونا بدلات زرقاء عليها ختم مصلحة السجون الإسرائيلية، كأنهم يختمون على أجسادنا أنها ملك لهم حتى فى الحرية».
يُمسك بالبدلة ويُرى الختم الواضح: «احتفظت بها لأثبت أنهم حولوا حتى ملابس الصليب الأحمر إلى أداة إذلال.. أرادوا أن يقولوا للعالم: هؤلاء الأسرى عبيد لنا، حتى بعد أن يتحرروا!».
فى سجن رامون الصحراوى، يضيف الردايدة: «الأقفال الحديدية كانت تزن أيدينا وأرجلنا، وبينهما سلسلة تشدنا أكثر، كأننا نحمل صليبا، لكن ليس للصلب، بل للسقوط مرارا وتكرارا تحت أقدامهم.. لقد كان الجنود يضعون أقدامهم على السلاسل، يدفعونهم ليسقطوا أرضا، ثم يضحكون، ثم يركلون، ثم يعيدون الكرة.. كانوا يستمتعون بتعصيب أعيننا وغرز الحديد فى أجسادنا حتى العظم.. لم يكن الضرب عشوائيا، كانوا يتنافسون على تعذيبنا أكثر، يعرفون أين يضربون، وكيف، وأى ضربة تؤلم أكثر وأى عظمة يمكن أن تكسر بسهولة.. من الألم كانت تتساقط جلودنا.. لم يعد هناك لحم، والقلب الذى ينبض فقط لأنه لا يعرف كيف يتوقف.. كنا 12 أسيرا فى 20 مترا مربعا، لا نستطيع أن نقف، لا نستطيع أن نستلقى، لا نستطيع حتى أن نتنفس بحرية.. حتى الفراش الذى ننام عليه كانت رائحته كريهة، كأنهم أرادوا أن نتعفن ونحن أحياء.. أما البرد؟ لم يكن شيئا عابرا.. كان وحشا ينهش العظام، ولا يترك أثرا يُرى.. كنا نرتدى نفس الملابس لعام ونصف، نمشى حفاة على الأرض، لا نملك حتى رفاهية الجوارب.. تحررت لكن حتى اليوم أشعر بالأصفاد وأقدام الجنود وأنتظر الضربة القادمة».
وحين جاءت لحظة الإفراج، لم تكن حرية، بل كانت مرحلة أخرى من العذاب، لم يخبرهم أحد أنهم سيتم الإفراج عنهم، ولم يكن هناك إعلان، لم يكن هناك انتظار بفارغ الصبر، بل فجأة، جاءت الأوامر، لكنها لم تكن أوامر بالخروج، بل بأقصى درجات الإذلال الممكنة قبل ذلك، حيث يقول محمود: «كبلوا أيادينا وأرجلنا بالسلاسل، عصبوا أعيننا، وجعلونا نجلس لساعات تحت الشمس، قبل صعودنا للحافلة، ضربونا بعنف، أرادوا أن نظهر للعالم محطمين، بلا كرامة».
فى الخامسة صباحا يوم 25 يناير 2025، يقول: اقتادونا إلى ما يسمى بالبوسطه، كان البرد قارصا والحديد يسرق الحرارة من أجسادنا.. جلسنا مكبلين بلا حركة، أقدامنا تتجمد، وأجسادنا ترتعد، احتضنَّا بعضنا كى لا نموت، حتى أن أحد الرفاق سقط مغشيا عليه، فحاولنا تدفئته بأنفاسنا التى بالكاد تدفئ أجسادنا، الجنود كانوا يشربون القهوة ساخنة ويضحكون.. ضحكات كأنها طلقات رصاص».
محمد نبيل العرقان: جسد مسحوق وروح تنتظر النهاية
«65 سنة - 30 عاما فى الأسر - حكمين بالمؤبد 198 سنة»
ثلاثون عاما فى سجون الاحتلال لم تترك شبرا من جسد «محمد العرقان - 65 عاما»، إلا وتركته مشروخا، لكنه يختزل أقسى لحظاته فى صورة واحدة: «كانوا يرشون غاز الفلفل فى زنازين مكتظة بـ11 أسيرا ويتلذذون بذلك، نختنق ونصارع الهواء بينما يتفرجون.. أطباء السجن وقفوا يتابعوننا كما يتابع العلماء فئران التجارب.. كانت أجسادنا تتحول إلى مساحات مفتوحة للتعذيب وكنا ننام ونصحوا على الألم: مرة كسروا ضلعى بضربة غادرة، وتركونى أصرخ شهرين دون علاج. كانوا يتلذذون برؤية الألم يتجذر ببطء شديد»، وقالوا: هذا مصير من يتحدى السجان». أما الفورة أو الخروج إلى الساحة، فكانت أحلاما مُتعثرة، فيقول: «بعد 7 أكتوبر لم أر الشمس تماما، وإن اعترضنا، يُحكمون علينا بالعزل فى زنازين لا تُضىء فيها شمسٌ ولا أمل.. وأذلونا بطعام منهى الصلاحية».
وتابع: «فى الشتاء، كانوا يتركوننا بملابس داخلية رقيقة، نرتعد تحت بطانية واحدة.. والشبشب المُمزق كان سلاحنا لتحويل أقدامنا إلى جراح مفتوحة.. وواجهت الموت مرات ومرات، أصبت بورم حميد على الكبد، تم استئصاله لاحقا.. ثلاثون عاما من الصبر والانتظار، وحين جاءه نبأ الإفراج، بدا الأمر بين التصديق والوهلة».
محمد أبوحميد.. التجويع المتعمد
«42 سنة - 23 عاما فى الأسر - واجه حكمين بالمؤبد و33 سنة - 228 سنة»
فى سجن نفحة الصحراوى، عاش محمد أبوحميد 23 عاما من الجوع المقنن، لم يكن الأمر مجرّد حرمان من الطعام، بل كان تجويعا متعمدا، وجبة بعد أخرى، حتى صار الجسد هيكلا عظميا يمشى على الأرض، حيث يقول: عام ونصف العام بقطعة ملابس واحدة، وفراش لم يتغير.. كنا نأكل طعاما لا يصلح للبشر، نشرب ماء ملوثا، ومن الجوع وشدته نشاهد أجسادنا تتآكل ببطء حتى العظام كأننا نذوب دون لهب.. الأمراض الجلدية التهمتنا حتى وصلت للعظام، بينما الجرب كان يتسلل بين مساماتنا كعدو خفى، يحكّ الجسد حتى ينزف... لم يكن هناك دواء، ولا مسكن، فقط صمت الجدران وبردٌ يتسلل حتى العظم».
ناصر أب حميد.. السرطان والموت أبطأ من الألم
لكن الذروة فى هذا الجحيم تتجلى فى قصة ناصر أبوحميد، شقيق المحرر محمد أبوحميد، الذى مات بين جدران السجن لكنه ظل أسيرا حتى بعد الموت، حيث يقول «سرطان الرئة التهمه ببطء.. كان يحتضر أمامنا، يتلوى من الألم، يتنفس بصعوبة.. شاهدناه يتلاشى يوما بعد يوم، كان يسعل دما، يتنفس بصعوبة كأن رئتيه تغرقان فى الماء، ومع ذلك، لم ينقلوه إلى المستشفى.. كان يموت ببطء ونحن نشاهده، عاجزين حتى عن تقديم كأس ماء بارد له، وعندما مات، رفضوا تسليم جثمانه، حتى الموت لم يحرره».
نائل ياسين.. «فنّ الألم» الذى أتقنه السجّانون
«49 سنة - 19 سنة فى الأسر- حكم بالمؤبد و30 عاما - 129 سنة»
فى 18 يوليو 2006، وقع الأسير الفلسطينى نائل محمد سليمان ياسين، المولود فى قرية عصير الشمالية فى نابلس، فى كمين للجيش الإسرائيلى، حيث أصيب برصاصة فى الرأس وتم اعتقاله مرة أخرى.. هذه المرة، قضى نائل ما يقارب 20 عاما فى سجون الاحتلال الإسرائيلى، حتى تم الإفراج عنه فى 25 يناير 2025.
يقول «لم يكن الضرب عشوائيا.. كانوا يعرفون أين يضربون، كيف يكسرون العظام دون أن يموت الأسير.. كان الألم طقسا متعمدا، كل صفعة، كل ركلة، محسوبة بدقة.. أذكر يوم ربطونى بالسلاسل وألقوا بى على الأرض.. وضعوا قدم الجندى فوق السلسلة التى تربط يدىّ برجلىّ، ثم بدأوا يدفعونها ببطء.. ببطء شديد، حتى شعرت أن عظامى تتفتت وكأنها زجاج هش، كانوا يتلذذون بالصوت، صوت العظم حين تتصدع».
الكلاب جزء من المشهد
وخلال تواصلنا بالأسرى المحررين إلى غزة والضفة الغربية، طلب عدم ذكر اسمه، حيث يكشف: «شاهدت زميلى وهو يتوسل بينما تنهش الكلاب جسده.. لم يكن هناك صراخ كافٍ ليعبّر عن الألم. أنيابها كانت تغوص ببطء فى ذراعه، والدم ينزف على الأرضية الباردة. تركوه بيننا يتلوى، يصرخ، ثم سكت للأبد. مات بين يدىّ وهو لا يزال يفتح عينيه، كأنه ينتظر ضربة الرحمة... لكنها لم تأتِ».
ربيع أبوالرب.. موسيقى كإبر مسمومة
«47 سنة - 23 عاما فى الأسر - حكمين بالمؤبد»
المحرر ربيع أبوالرب، التهمته سُجون الاحتلال 23 ربيعا، يحكى عن حرب نفسية موازية للجوع والضرب: «كانوا يشغلون موسيقى صاخبة طوال الليل، أصوات مشوشة تتسلل إلى دماغك كإبر مسمومة، لم نعرف ليلا من نهار، كنا نعيش فى حالة من التيه، ولما اعترضنا، جاء أحدهم، سحب المصاحف، أمام أعيننا، وهو يصرخ: «حتى هذا ممنوع هنا!».. كانوا يعرفون أن تحطيم الروح أهم من تحطيم العظم».
وفى لحظة الإفراج، كان لا بد أن تكون النهاية قاسية أيضا: «ألبسونا بدلات زرقاء، عليها ختم مصلحة السجون، كأنهم يصرخون: أنتم لنا حتى فى حريتكم، اقتادونا إلى العراء فى الخامسة صباحا، تحت صقيع ينهش العظام، مكبلين بالسلاسل، جالسين على كراسٍ حديدية مجمدة، شرب الجنود القهوة الساخنة أمامنا، بينما كان البرد يسحب أنفاسنا الأخيرة ببطء قاتل».
محمد أبوالرب.. والجراح المتعفنة
«49 سنة - 23 عاما فى الأسر - حكم بالمؤبد و35 عاما - 134 سنة»
«كلُّ جرامٍ نُزعَ منّى كانَ إعلانا عن إعدامِ إرادة، الجوعُ لم يكُن سياسة فقط، بل فلسفة لِكَسْرِ العظامِ قبلَ الأرواح»، كذا وصف محمد فاروق أبوالرب لحظات التجويع التى عايشها على مدار 23 عاما من الأسر.
يقول أبوالرب: «فى إحدى الليالى، كان البرد قارسا إلى درجة أنى شعرت بأن أطرافى تتجمد.. التصقت بالحيط محاولا امتصاص أى دفء متبق، لكن الجدران كانت أبرد من جلدى، كنا نحتضن بعضنا أحيانا فقط لنشعر أن الدم ما زال يجرى فى عروقنا، رغم أنه بالكاد كان يفعل».
فى سجون الاحتلال، لم يكن التعذيب مقتصرا على الإنسان، بل جُندت الكلاب كأدوات وحشية للنهش والإذلال، محمد فاروق أبوالرب يتذكر: «كانوا يطلقون الكلاب علينا وكأنها تحمل رتبة عسكرية.. أنيابها لا تنهش الجسد فحسب، بل الكرامة ذاتها.. كلب ضخم انقض علىّ ذات ليلة، كان الجندى يقف خلفه يصرخ بالعبرى، وأنيابه تغوص فى ساقى.. تركونى أنزف بلا علاج.. بعد أيام، بدأت الجرح يتعفن، وكانت الرائحة تملأ الزنزانة، كأنهم أرادوا أن أتآكل حيا».
التعذيب بوضعية القرفصاء
لكن الأشد قسوة كانت تلك اللحظات التى استُخدمت فيها الكلاب فى عمليات إذلال قصوى، أحد الأسرى روى، طالبا عدم الكشف عن هويته: فى إحدى المرات، قيدونا بوضعية القرفصاء، عراة تماما، وجاؤوا بكلاب بوليسية جعلوها تتحسس أجسادنا، تلعق أماكن حساسة، فيما كانوا يضحكون خلف القضبان.. كنت أتجمد بين الرعب والعار، لقد اغتصبوا روحى».
منتصر أبوزيتون.. الجسد كساحة انتقام
«40 سنة - 21 عاما فى الأسر - حكم بالمؤبد مدى الحياة»
منتصر أبوزيتون، الأسير المحرر بعد 21 عاما من السجن، يصف لحظة تجاوزت حدود الألم الجسدى إلى تدمير الروح، حيث يقول «فى إحدى المرات، قرروا استخدامنا كفئران تجارب. خمس وحدات من الجيش اقتحمت الزنزانة، مسلحين بكل ما يمكن تخيله: بنادق، قنابل صوتية، قنابل غاز.. أطلقوا القنابل داخل الزنازين المغلقة. كان الدخان يملأ الرئة كأنه يزرع الموت ببطء، اختنق البعض حتى فقدوا الوعى. الذين نجوا، خرجوا بأجساد محطمة وأرواح مشوهة».
وتابع: «أخرجونا إلى الباحة بعد 12 ساعة من الضرب المستمر، أجبرونا على الوقوف تحت الشمس بلا ماء أو طعام.. بعضنا كان ينزف، آخرون بالكاد يستطيعون الوقوف، ضربونى بعقب بندقية فى بطنى حيث كان لدى فتاق، وشعرت وكأن أحشائى تمزقت، ونزفت ثلاثة أيام فى الزنزانة دون دواء، والألم كان لا يوصف، لكنه لم يكن كافيا لهم. أرادوا أن ننهار نفسيا قبل جسدى».
سعيد شتيه.. القتل البطىء للعقل
«44 سنة - 23 عاما فى الأسر - حكمان بالمؤبد»
الألم فى سجون الاحتلال لم يكن جسديا فقط، بل كان هناك فن آخر: تعذيب الروح، سعيد شتيه، الذى قضى 23 عاما خلف القضبان، يروى عن العزلة والحرمان من الشمس لسنوات، حيث يقول: «أحيانا كنت أصرخ فقط لأتأكد أننى ما زلت أسمع صوتى».
ويضيف: «فى يوم من الأيام، دخل سجان إلى الزنزانة وبدأ يشتم الذات الإلهية بصوت عال، وقف فوقى وصرخ: «أين ربك الآن؟ هل يسمعك؟» تلك الكلمات كانت أصعب من الضرب، كانت خنجرا فى الروح، لم يكن هدفهم فقط إذلالنا، بل كسر صلتنا بأى أمل.. حتى شعرت أن الرصاص فى رأسى أرحم من إهانات الاحتلال».
ويضيف، فى إحدى المرات، كانت سلطة السجون تتمرّن وتجرى تدريبات فى أجنحة فارغة، لكنّهم تدرّبوا هذه المرّة علينا.. 5 وحدات كيتر ودورون، ويسام، ويمام ونحشون، دخلوا علينا، وكانوا مسلّحين بالبنادق والمسدادات، واستخدموا الرصاص الحىّ، والمطّاطىّ، والقنابل الصوتىّة وقنابل الغاز، وأطلقوا النار على نوافذ وأبواب الزنازين وداخلها أيضا.. اختنقنا جميعا.. شعرنا حينها بسكرات الموت، لقد كان ذلك مخيفا بشكل لا يصدق.. بعض الأسرى كانوا يعانون من أمراض سابقة، أصيبوا بتشنّجات.. وذات مرّة استمرّت عملية شاركت فيها جميع الوحدات 12 ساعة، أخرجونا من القسم، أدخلونا إلى زنازين انفرادية، جرّدونا من ملابسنا وأجروا تفتيشا فى القسم.. أزاحوا أمتعتنا وفرشاتنا من أماكنها وعاثوا فسادا فى كلّ شىء.. لقد أصبت وظللت أنزف لثلاثة أيام متواصلة داخل الزنزانة، وقطعوا عنى الدواء، فقد كنت مصابا بفتاق فى البطن.. الآن خرجت من السجن ولم يخرج من داخلى بعد ربع قرن من الأسر».
.jpg)





.jpg)


.jpg)
