محكمة النقض - أرشيفية
أصدرت الدائرة المدنية "د" – بمحكمة النقض – حكماً فريداً من نوعه، ، وضعت خلاله إطارًا قانونيًا واضحًا في قضايا إيصالات الأمانة للتمييز بين جريمتى "خيانة الأمانة" و"التزوير" في حالات تغيير الحقيقة في الأوراق الموقعة على بياض، حيث هذا الحكم يعكس تطورًا مهمًا في الفقه القضائي ويقدم توجيهات واضحة للمحاكم والأفراد في التعامل مع مثل هذه القضايا.
صدر الحكم في الطعن المقيد برقم 22529 لسنة 93 قضائية، برئاسة المستشار محمد عباس منيعم، وعضوية المستشارين على مصطفى معوض، وصالح مصطفى عبد الرحيم، ومجدي محمد عبد الرحيم، وياسر شوقي الحديدي، وبحضور كل من رئيس النيابة كريم الجرف، وأمانة سر فتحي حمادة .

الوقائع.. نزاع قضائى بين دائن ومدين بمبلغ 800 الف جنيه
الوقائع - على ما يبين من الحكم المطعون فيه وسائر الأوراق تتحصل في أن المطعون ضده كان قد تقدم بطلب إلى السيد / رئيس محكمة دمياط الابتدائية بصفته لإستصدار أمر أداء بإلزام الطاعن بأن يؤدي له مبلغ ثمانمائة ألف جنيه، على سند أنه يداينه بهذا المبلغ بموجب إيصال أمانة، وإذ أنذره بالسداد امتنع عن الوفاء، فتقدم بالطلب سالف البيان، وإذ رفض القاضي إصدار الأمر تحددت جلسة لنظر الموضوع، وقيدت الدعوى برقم 552 لسنة 2022 مدني محكمة دمياط الابتدائية، حكمت محكمة أول درجة بالطلبات.
الدائن يتقدم بطلب لإستصدار أمر أداء للمبلغ بموجب إيصال أمانة
ثم أستأنف الطاعن هذا الحكم بالاستئناف رقم 1813 لسنة 54 قضائية، أمام محكمة استئناف المنصورة "مأمورية دمياط"، وبتاريخ 16 مايو 2023 قضت المحكمة برفضه، وبتأييد الحكم المستأنف، ثم طعن الطاعن في هذا الحكم بطريق النقض، وأودعت النيابة مذكرة أبدت فيها الرأي برفضه، وإذ عرض الطعن على هذه المحكمة في غرفة مشورة حددت جلسة لنظره وفيها التزمت النيابة رأيها.

القاضي يرفض إصدار الأمر.. ويتم تحديد جلسة عاجلة لنظر الموضوع
مذكرة الطعن استندت على عدة أسباب لإلغاء الحكم حيث إن مما ينعاه الطاعن على الحكم المطعون فيه القصور في التسبيب، ذلك أنه تمسك أمام محكمة الاستئناف بطلب إحالة الدعوى للتحقيق ليثبت أنه لم يتسلم المبلغ الثابت بإيصال الأمانة سند الدعوى، وأن زوج شقيقة المطعون ضده تحصل على ذلك الإيصال "خلسة" ضمن توقيعات أوراق أخرى وقعها الطاعن على بياض كضمان لالتزام خاص بالمذكور إلا أن الحكم واجه دفاعه بما لا يصلح رداً مما يعيب الحكم ويستوجب نقضه.
محكمة أول درجة تقضى بأداء المبلغ.. والمدين يتسأنف الحكم لإلغاءه
المحكمة في حيثيات الحكم قالت: إن هذا النعي في محله ذلك أنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مؤدى نص الفقرة الثانية من المادة 137 من التقنين المدني أن ذكر سبب الالتزام في سند الدين لا يحول بين المدين وإثبات صورية هذا السبب فيحق له إقامة الدليل على صوريته وأن السبب الحقيقي هو تحريره كضمان لتنفيذ التزام معين، وكان تحرير السند كضمان يتوافر به السبب في وجوده ومشروعيته ومن ثم فإن براءة ذمة المدين أو تحقق مديونيته يتوقف على ثبوت أو عدم ثبوت تنفيذه للالتزام الصادر السند ضماناً للوفاء به.

"الاستئناف" تؤيد الحكم.. والمدين يطعن أمام النقض كفرصة أخيرة
وبحسب "المحكمة": وأنه من المقرر أن تغيير الحقيقة في الأوراق الموقعة على بياض ممن استؤمن عليها هو نوع من خيانة الأمانة، يرجع في إثباته للقواعد العامة، ومن مقتضاها أنه لا يجوز إثبات عكس ما هو في الورقة الموقعة على بياض إلا أن تكون هناك كتابة أو مبدأ ثبوت بالكتابة يستكمل بشهادة الشهود أو القرائن ولا يخرج عن هذا الأصل سوى حالة ما إذا كان من استولى على الورقة قد حصل عليها خلسة أو نتيجة غش أو طرق احتيالية أو بأى طريقة أخرى خلاف التسليم الاختياري فعندئذ يعد تغيير الحقيقة تزويرا يجوز اثباته بكافة طرق الاثبات.
المدين يؤكد أن التوقيع أُخذ منه "خلسة".. ويطالب بالتحقيق في الواقعة
ووفقا لـ"المحكمة": كما أنه من المقرر أن إغفال الحكم بحث دفاع أبداه الخصم يترتب عليه بطلان الحكم إذا كان هذا الدفاع جوهرياً ومؤثراً في النتيجة التي انتهى إليها، وأن طلب الخصم إحالة الدعوى إلى التحقيق لتمكينه من إثبات أو نفي دفاعه عن طريق سماع شهوده هو حق له إذا كانت هي الوسيلة له في الإثبات.

النقض تقبل الطعن وتعيد القضية لمحكمة الاستئناف
لما كان ذلك - وكان الثابت من الأوراق أن الطاعن تمسك أمام محكمة الموضوع بأنه لم يتسلم المبلغ المدون بإيصال الأمانة سند الدعوى، وأنه وقعه على بياض ضمن أوراق أخرى بطريق التحايل والتدليس وطلب إحالة الدعوى إلى التحقيق لإثبات ذلك، إلا أن الحكم المطعون فيه التفت عن هذا الدفاع وطلب تحقيقه، ولم يقسطه حقه بما يقتضيه من بحث وتمحيص وانتهى إلى تأييد الحكم المستأنف بإلزام الطاعن بالمبلغ المطالب به مجتزأ القول بأن توقيعه على سند المديونية يدل على استلامه المبلغ الثابت به، وكان هذا الذي أورده الحكم المطعون فيه دعامة لقضائه لا يواجه دفاع الطاعن ولا يصلح رداً عليه حالة أنه دفاع جوهرى يترتب عليه - إن صح - تغيير وجه الرأي في الدعوى فإنه يكون قد ران عليه القصور المبطل بما يوجب نقضه لهذا السبب دون حاجة لبحث باقي أسباب الطعن على أن يكون مع النقض الإحالة.
لذلك:
نقضت المحكمة الحكم المطعون فيه وأحالت القضية إلى محكمة استئناف المنصورة مأمورية دمياط " وألزمت المطعون ضده بالمصاريف ومائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

الخلاصة:
حكم النقض يفرق بين حالتين رئيسيتين:
1-حالة التسليم الاختياري للورقة:
أ- إذا قام شخص بتغيير الحقيقة في ورقة موقعة على بياض بعد أن استؤمن عليها، فإن ذلك يُعتبر "خيانة أمانة".
ب-وفقًا للمبدأ القانوني المستقر، لا يجوز إثبات عكس ما هو ثابت في الورقة، إلا بالكتابة أو بمبدأ الثبوت بالكتابة الذي يمكن استكماله بشهادة الشهود أو القرائن.
2-حالة الاستيلاء غير الاختياري على الورقة:
أ- إذا تم الحصول على الورقة "خلسة" أو بالغش أو بطرق احتيالية "بدون تسليم اختياري"، ثم جرى تغيير الحقيقة فيها، فإن ذلك يُعتبر "تزويرًا".
ب- في هذه الحالة، يجوز للمدين إثبات التزوير بكافة طرق الإثبات، بما في ذلك شهادة الشهود والقرائن.

سبب النقض في هذه القضية:
- تمسك الطاعن بأنه لم يتسلم المبلغ المدون في إيصال الأمانة، وأن توقيعه على الإيصال كان على بياض ضمن أوراق أخرى تم التحايل عليه فيها.
- طلب الطاعن إحالة الدعوى إلى التحقيق لإثبات ذلك، وهو "حق قانوني" له، لكن محكمة الاستئناف لم تبحث هذا الدفاع بشكل كافٍ.
- اكتفت المحكمة بتأييد الإلزام بالمبلغ لمجرد أن الطاعن وقع على السند، دون النظر إلى دفاعه الجوهري.
- رأت محكمة النقض أن هذا "قصور في التسبيب" يستوجب نقض الحكم، وأمرت بإعادة القضية إلى محكمة الاستئناف للنظر فيها من جديد.
أهمية الحكم:
1-حماية الأفراد من التلاعب بتوقيعاتهم:
يؤكد الحكم أن التوقيع على بياض لا يعني بالضرورة الاعتراف بالدين، خاصة إذا تم الحصول على التوقيع بطرق غير مشروعة.

2-ضرورة بحث الدفوع الجوهرية:
يرسخ الحكم مبدأ أن المحاكم ملزمة ببحث دفاع المتهمين بشكل جوهري، وعدم تجاهله إذا كان قد يغير وجه الرأي في القضية.
3-توفير أدوات قانونية لمكافحة التزوير:
يسمح الحكم بإثبات التزوير بجميع الوسائل في حالات الاستيلاء غير الاختياري على الأوراق، مما يوفر حماية قانونية أكبر للأفراد.
خلاصة القول:
هذا الحكم يُعد تطورًا مهمًا في الفقه القضائي المصري، حيث يوفر حماية قانونية للأفراد من التلاعب بتوقيعاتهم، ويؤكد على ضرورة قيام المحاكم ببحث جميع الأدلة والدفوع بشكل عادل ومنصف.



