السبت، 16 أغسطس 2025 07:24 ص

مقاتل على جبهة الأدب.. رحلة صنع الله إبراهيم فى غابة الحياة فلسفة وموقف وغضب هامس.. سر الاسم غير التقليدى للروائى الراحل.. حكاياته بين السياسة والأدب على مدى 6 عقود

مقاتل على جبهة الأدب.. رحلة صنع الله إبراهيم فى غابة الحياة فلسفة وموقف وغضب هامس.. سر الاسم غير التقليدى للروائى الراحل.. حكاياته بين السياسة والأدب على مدى 6 عقود الأديب الكبير الراحل صنع الله إبراهيم
الجمعة، 15 أغسطس 2025 09:00 م
كتب - أحمد منصور - محمد فؤاد
ـ مواقفه الوطنية من التصدّى للإخوان إلى الالتحاق بالثورة الشعبية فى 30 يونيو
 
الأديب الكبير الراحل صنع الله إبراهيم هو أحد أبرز رواد الأدب فى مصر، حيث يعد علامة من علامات الأدب المصرى، وأحد أعمدة الرواية المصرية والعربية وأصدر خلال حياته مجموعة كبيرة ومميزة من الأعمال الأدبية والتى تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة وقصص الأطفال، ودخلت بعضها فى قائمة أفضل مائة رواية عربية، وقد رحل عن عالمنا الأربعاء عن عمر ناهز 88 عاما، إثر إصابته بالتهاب رئوى، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا ثريًا امتد لعقود، وقلوب عشاق الأدب حائرة بين الألم على فراقه والامتنان لما قدّمه من نصوص صارت جزءًا من التاريخ الثقافى.
 
وكان الروائى الكبير صنع الله إبراهيم قد تعرض فى الأول من مايو الماضى لحادث سقوط بمنزله، نتج عنه كسر فى عنق عظمة الفخذ الأيمن، وقد تم نقله إلى مستشفى معهد ناصر، حيث تعامل فريق من الاستشاريين مع حالته، وأُجريت له عملية جراحية ناجحة، وخرج من غرفة العمليات بحالة صحية مستقرة، ثم تدهورت حالته من جديد إثر تعرضه لالتهاب رئوى حاد لينقل مرة أخرى إلى المستشفى للعلاج عبر جهاز تنفس صناعى، ولكنه لم يستمر طويلا ليرحل بسلام.
 
صنع الله إبراهيم
ولد صنع الله إبراهيم بالقاهرة عام 1937م، وكان لوالده أثرٌ كبير على شخصيته، فقد زوَّده بالكتب والقصص وحثَّه على الاطِّلاع، فبدأت شخصيتُه الأدبية فى التكوين منذ الصِّغَر، درس صنع الله إبراهيم الحقوق، لكنه سرعان ما انصرف عنها متجهًا إلى الصحافة والسياسة، كما انضم للمُنظَّمة الشيوعية المصرية «حدتو»، واعتقل بسببها عام 1959م وظل فى السجن خمس سنوات حتى عام 1964م.
 
بعد خروجه من السجن بدأ العمل الصحفى بوكالة الأنباء المصرية عام 1967م، ثم عمل لدى وكالة الأنباء الألمانية فى برلين الشرقية عام 1968م، حتى عام 1971م، وبعدها اتَّجه إلى موسكو لدراسة التصوير السينمائى، والعمل على صناعة الأفلام، ثم عاد إلى القاهرة عام 1974م فى عهد الرئيس السادات، وتَفرَّغ للكتابة الحُرة كليًّا عام 1975م.
 
يوسف إدريس عن أول روايات صنع الله إبراهيم
كتب صنع الله إبراهيم روايته الأولى تلك الرائحة، التى صدرت عام 1967 بعد خروجه من المعتقل السياسى، والتى قدّم لها الكاتب الكبير يوسف إدريس بكلمات خلدت العمل ومبدعه، حيث كتب إدريس حينها: «إن تلك الرائحة ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان على نفسه، وهى ليست نهاية، ولكنها بداية أصيلة لموهبة أصيلة، بداية فيها كل ميزات البداية، ولكنها تخلو من عيوب البدايات لأنها أيضا موهبة ناضجة».
 
ومما قاله يوسف إدريس فى المقدمة: إننى شديد الاعتزاز بصنع الله إبراهيم الفنان، وسعيد حقيقة، وأنا أحس أنه آن الأوان لتقرأه الحركة الفنية والأدبية فى كتاب كامل فى قصة من أجمل ما قرأت باللغة العربية خلال السنوات القليلة الماضية.
هكذا مهّد عميد القصة القصيرة المصرية الطريق أمام صوت جديد فى الأدب، خرج من السجن لا لينكفئ، بل ليكتب ويثور من جديد. كانت تلك الرائحة، وهى نوفيللا قصيرة لا تتجاوز 60 صفحة، بمثابة إعلان ميلاد كاتب مختلف، زاوج بين التجريب الفنى والهم السياسى، فى نص شديد التكثيف والحساسية، يتجاوز حدود السرد إلى طرح أسئلة وجودية ووطنية شائكة.
 
وقد أثار العمل وقت صدوره جدلًا واسعًا بسبب لغته المباشرة والحميمية، ونظرته القلقة إلى الواقع بعد الهزيمة والانكسار، كما مثل تحديًا للقوالب التقليدية فى كتابة الرواية العربية.
 
أشهر أعمال صنع الله إبراهيم
واصل صنع الله إبراهيم بعد روايته الأولى إنتاجه الأدبى الذى تميز بالتوثيق التاريخى، والتركيزِ على الأوضاع السياسية فى مصر والعالَم العربى، فضلًا عن سرده الكثيرَ من حياته الشخصية، ومن أشهر أعماله: رواية «شرف» التى تحتلُّ المرتبةَ الثالثة ضمن أفضل مائة رواية عربية، و«اللجنة»، و«ذات»، و«الجليد»، و«نجمة أغسطس»، و«بيروت بيروت»، و«النيل مآسى»، و«وردة»، و«العمامة والقبعة»، و«أمريكانلى»، و«67» وغيرها من الأعمال الأدبية التى تحظى بمكانة متميزة فى عالم الأدب.
 
صنع الله إبراهيم مترجمًا
وبعيدًا عن الرواية الإبداعية، قام الكاتب الكبير بترجمة بعض الأعمال من الأدب العالمى وهى: التجربة الأنثوية: مختارات من الأدب النسائى العالمى جمع وترجمة صنع الله إبراهيم، ولم يقف هذا الكتاب عند ترجمة بعض النصوص الأدبية لكاتبات عالميات، بل هو مشروع لفكرة دارت فى خلد صنع الله إبراهيم وراح يطرحها عبر هذه النصوص، تَقوم الفكرة على فَهم الذات الأنثوية من خلال المرأة ذاتها؛ أى إدراك الأحاسيس والمشاعر التى تتشكل فى هذا المخلوق من خلال ما ذكرته هى عن نفسها، فالمرأة أبلغ من يكتب عن المرأة؛ هى التى تشعر، وهى الأكثر قدرة على التعبير عما تشعر به، وخاصةً إذا كان الشعور لا يتعلق بطموحاتها، وإثبات ذاتها العملية والعلمية والمجتمعية، بل هو شعور يَتعلَّق فى الأساس بجنسها، وكيفية فَهمها طبيعةَ جسدها، ورغبات هذا الجسد. تجرِبة خاصة وفريدة وجريئة فى آن واحد، لكنها بلا شك تسلط الضوء على أمور كثيرة ظلت طويلا أسيرة لمحرمات مجتمعية، لكن صار من الممكن البوح بها، كما ترجم صنع الله إبراهيم أيضًا رواية «العدو» لـ جيمس دروت، ورواية «الحمار» لـ جونتر دى بروين.
 
كتب وروايات علمية كتبها صنع الله إبراهيم
بجانب رواياته الشهيرة، كتب الراحل عددا من الأعمال ذات الصيغة العلمية للأطفال، ومنها «يوم عادت الملكة القديمة»، وهى رواية علمية تتحدث عن دورة حياة مملكة النحل، وتدور أحداث هذا الكتاب حول عودة ملكة قديمة إلى مملكتها بعد غياب طويل، وتحاول استعادة حكمها ومجدها،  و«عندما جلست العنكبوت تنتظر»، يتناول هذا الكتاب قصة عنكبوت تبنى بيتها وتنتظر بفارغ الصبر، مستعرضةً الصعوبات والمخاطر التى تواجهها، و«اليرقات فى دائرة مستمرة»، تدور هذه المسرحية حول دورة حياة اليرقات وتطورها، وتأثيرها على البيئة المحيطة، كما يشير موقع مؤسسة سلطان بن على العويس الثقافية، و«الحياة والموت فى بحر ملون»، تتناول هذه المسرحية فكرة الحياة والموت من خلال عالم البحار، وتسلط الضوء على التنوع البيولوجى والتوازن البيئى فى هذا العالم، و«حكايات علمية للصغار» هى مجموعة من الحكايات التى تهدف إلى تبسيط المفاهيم العلمية للأطفال بطريقة مشوقة وممتعة.
 
صنع الله إبراهيم من الرواية إلى السينما
عرف عن صنع الله إبراهيم تحفظه على تحويل رواياته إلى أعمال فنية، بسبب خشيته من تشويه رسالتها أو تسطيح أبعادها السياسية، وقد عبر عن ذلك فى عدة لقاءات صحفية، حيث أبدى اعتراضه على بعض المعالجات الدرامية حتى وإن كانت مقتبسة من أعماله. ومن بين أعمال صنع الله إبراهيم هناك واحدة تحولت إلى مسلسل تليفزيونى ناجح يحمل نفس عنوان الراوية «ذات» عام 2013، من بطولة نيللى كريم، وإخراج كاملة أبو ذكرى وخيرى بشارة، حقق المسلسل نجاحًا واسعًا، ويُعد من أبرز الأعمال الدرامية المقتبسة عن روايات صنع الله إبراهيم.
 
رواية «ذات» هى رواية اجتماعية، نشرت لأول مرة عام 1992، تدور أحداثها حول قصة حياة السيدة المصرية ذات، وترصد التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التى حدثت للمصريين منذ ثورة 1952 وحتى نهاية القرن العشرين، وقد تم تحويلها لمسلسل تليفزيونى باسم بنت اسمها ذات، وترجمها إلى الإنجليزية أنطونى كولدربانك.
 
«ذات» هى الرمز الذى حاول صنع الله إبراهيم من خلاله أن يصور المجتمع المصرى الذى يموج بقيم ومعتقدات تتحكم بفكره وبحياته، مجتمع ينوء مواطنه بأحمال الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذه يورد وقائعها منقولة عن الصحف المصرية الحكومية منها والمعارضة، ليعكس الجو الإعلامى العام الذى أحاط بمصائر شخصياته وأثر فيهم. فى «ذات» يتداخل الخيال والواقع، الرمز والحقيقة ليجسد أبعادا إنسانية عبّر عنها صنع الله إبراهيم بأسلوب يُقَرِّب «ذات» من كل ذات، فهى الحقيقة المتوارية خلف الذات.
 
رواية شرف ضمن أفضل 100رواية عربية
كما دخلت روايته «شرف»، ضمن أفضل 100 رواية عربية، وتتحدث الرواية عن دخول الطالب الجامعى «أشرف»، أو «شرف» كما كانت تحب أن تناديه والدته، السجنَ فى جريمة قتل دفاعًا عن شرفه، ولكن فى عالم السجن المخيف الملىء بالفساد والإفساد، والظلام والإظلام، يستسلم «شرف» فى النهاية لهذا العالَم المخيف عديم الشرف. تجربةٌ مريرة وفاضحة قدَّمها «صنع الله إبراهيم» ببراعةٍ فائقة، حتى استحقَّت روايته أن تحتلَّ المركز الثالث ضمن قائمة اتحاد الكتاب العرب لأفضل مائة رواية عربية، التى نُشرت فى عام 2001.
 
فمن خلال «شرف» يقتحم كاتبنا عالَم السجون ليقدِّم لنا كل صور التعذيب وانتهاك آدمية الإنسان، ويرفع الستار عن أكذوبة انتصاراتنا الوهمية، وعن أكذوبة الاقتصاد العالمى، والشركات المتعددة الجنسيات، وخاصة شركات الأدوية التى تتَّخذ من دول العالم الثالث سوقًا رائجة لتربح المليارات من أرواح ملايين المرضى من الشعوب البائسة، تنتمى الرواية إلى أدب السجون، وتُعَد وثيقةً مهمة لظلامية المرحلة.
 
جوائز حصدها صنع الله إبراهيم
أثير حول صنع الله إبراهيم الكثير من الجدل بسبب رفضه استلام «جائزة الرواية العربية» التى يمنحها المجلس الأعلى للثقافة، عام 2003م، كما نال العديد من الجوائز العربية المهمة، مثل «جائزة ابن رشد للفكر الحر» عام 2004م، و«جائزة كفافيس للأدب» عام 2017م، وجائزة تكريمية نالها عند بلوغه عامه الثمانين قدمت له باسم المثقفين المصريين.
 
صنع الله إبراهيم.. ضمير الوطن وإنسانيته
 
عندما أحد يسألنى أو يتحدث عن الروائى الكبير صنع الله إبراهيم كنت دائما أقول: «هو ليس فقط كاتبا، إنه حالة كاملة من الصدق والنقاء والجرأة».
 
صنع الله إبراهيم لم يكن مجرد روائى تُقرأ كتبه وتعاد إلى الرف، بل كان إنسانًا تحمله بين ضلوعك بعد أن تطوى الصفحات، فقد كنت أنا من القليلين الذين أتيح لهم الاقتراب من عالمه عن قرب، وعرفت أن وراء هذه الشخصية الصارمة الظاهرة، قلبًا دافئًا لا يتوقف عن القلق على بلده وشبابها.
 
كل لقاء بيننا كان يبدأ بالاطمئنان، حتى فى أصعب لحظات مرضه، كان صوته فيه قوة غريبة، وكأنه هو من يطمئنك لا العكس، «متقلقش، أنا كويس»، ثم يغيّر الموضوع سريعًا ليحدثك عن كتاب قرأه أو قضية تشغل باله، كان يؤمن أن المعرفة هى السلاح الحقيقى، وأن القراءة هى ما تحرر العقول قبل أن تحرر الأوطان.
 
مواقفه الوطنية لم تكن شعارات يرددها فى أحاديث عامة، بل قناعات دفع ثمنها من عمره وحريته منذ شبابه، واجه السجن والمنع والرقابة، لكنه لم يساوم، كان يرى أن المثقف الحقيقى لا يقف على الحياد فى معارك الوطن، وأن عليه أن ينحاز للحرية والعدالة مهما كانت الضغوط، كان دائمًا يذكرنى حلال حواراتى معه والتى كانت تنشر فى «اليوم السابع»، بأن الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية هما جناحا أى نهضة، وأن الصبر والعمل المستمر هما الطريق الوحيد لتحقيقهما.
 
أما عن أعماله الأدبية، فهى شهادات حية على زمنها، وثائق إنسانية وسياسية تحفظ ما قد يطمسه النسيان، من «ذات» التى رصدت تحولات المجتمع المصرى، إلى «شرف» التى فضحت أوجاع السجون وعوالمها المظلمة، كانت رواياته مرايا نرى فيها أنفسنا، بعيوبنا وأحلامنا وهزائمنا الصغيرة والكبيرة، فلم يكن يكتب ليرضى أحدًا، بل ليكشف عن قضايا مهمة ومثيرة بعيدًا عن الخوف.
 
أكثر ما كان يلمسنى فيه هو اهتمامه بالشباب، كان يقرأ ما يرسله له الكتاب الجدد بجدية واحترام، وكأنهم زملاء لا مبتدئون، كان يقول لى: «لو إحنا ما سندناش الجيل الجديد، يبقى إحنا بنقتل الأدب بإيدينا»، كان يعطى ملاحظاته بصراحة، وأحيانًا بصرامة، لكنه كان يسعد حين يرى موهبة تنضج أو فكرة تثمر.
 
اليوم، ورغم أن الروائى الكبير صنع الله إبراهيم قد طوى صفحته الأخيرة ورحل، إلا أن حضوره ما زال قويًا، فى كل مرة أفتح كتابًا له، أشعر وكأنه يجلس أمامى، يبتسم ابتسامته الهادئة، ويبدأ فى الحديث عن مصر، عن الناس، عن الحرية، وعن أهمية أن تبقى الكلمة حرة مهما كانت التكاليف، لقد كان صنع الله إبراهيم أكثر من مجرد كاتب، فقد كان ضميرًا حيًا، صديقًا وفيًا، ورجلًا لم ينحنِ إلا لصفحات كتاب.
 
إبراهيم عبدالمجيد
يا إلهى، رحل صنع الله إبراهيم، كل كلام الدنيا لا يكفى تعبيرا عن حزنى يا معلمنا وصديق العمر الجميل، إلى جنة الخلد يا صنع الله يا حبيبى، الدموع تجعلنى لا أرى يا حبيبى.
 
شعبان يوسف
إنه ليوم حزين ومؤلم للغاية، سقط هرم كبير فى حياتنا، مع السلامة يا صنع الله يا آخر الكبار.
 
د. أحمد الخميسى
صنع الله إبراهيم يشد الرحال إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وكل من أخلص للكلمة الصادقة، خسارة مؤلمة وفقدان كبير.
 
عزت القمحاوى
سيبقى صنع الله إبراهيم، القامة الروائية المديدة والضمير والاستقامة الثقافية، ستبقى كتابته شاهدة على تاريخ سياسى وأدبى، رحمك الله، ووداعا.
 
وائل السمرى
إلى رحاب الله انتقل الأديب الكبير صنع الله إبراهيم، راهب الفكر والإبداع المشغول دائما بالوطن وناسه، فى بداية اليوم السابع كان أحد أهم أسمائنا.
 
حسين حمودة
رحيل صنع الله إبراهيم.. له الرحمة والراحة بعد التعب.. ولنا إنجازه الإبداعى الكبير.
WhatsApp Image 2025-08-15 at 4.40.16 PM

print