فى خطوة تاريخية نحو إعادة تشكيل مستقبل العمل فى العصر الرقمي، يناقش مؤتمر العمل الدولي فى دورته الـ113، المنعقد خلال الفترة من 2 وحتى 13 يونيو الجارى، وضع معايير دولية جديدة لحماية ملايين العمال المرتبطين بالمنصات الرقمية حول العالم، وقد تصاعدت الدعوات من جانب الحكومات والنقابات العمالية لإصدار اتفاقية دولية ملزمة تضمن العمل اللائق فى هذا القطاع سريع النمو، الذى أصبح يشكل مكونًا أساسيًا فى سوق العمل الحديث.
كشف تقرير رسمى للمؤتمر عن توافق دولى واسع النطاق حول الحاجة الملحة لوضع صك دولى جديد لحماية عمال المنصات الرقمية، واستند التقرير إلى استطلاع شامل ضم ردود أكثر من 140 حكومة و195 منظمة عمالية و116 منظمة لأصحاب العمل، إضافة إلى منظمات نقابية دولية، وأيدت الغالبية العظمى من المشاركين فكرة إصدار "اتفاقية ملزمة مدعومة بتوصية" أو "توصية إرشادية مستقلة" لمعالجة هذا الملف المعقد الذى يؤثر على حياة ملايين العمال حول العالم.
يأتى هذا التوافق فى ظل النمو المتسارع لاقتصاد المنصات الرقمية، خاصة بعد جائحة كوفيد-19 التى أدت إلى تسريع الاعتماد على التكنولوجيا فى مختلف القطاعات، وقد أصبحت قطاعات التوصيل والنقل والعمل عن بُعد والوظائف عبر الإنترنت تمثل جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمى، مما خلق فرصًا جديدة للدخل والتوظيف، خاصة فى البلدان النامية.
يشير تقرير منظمة العمل الدولية إلى أن اقتصاد المنصات الرقمية لم يعد ظاهرة هامشية، بل أصبح عنصرا رئيسيا فى البنية الاقتصادية العالمية، تعمل ملايين العمال حول العالم اليوم من خلال منصات رقمية تؤدى وظائف متنوعة تشمل توصيل الطعام والبضائع، وخدمات النقل التشاركى، والدعم الفنى، والتصميم، والترجمة، والبرمجة، والتعليم عبر الإنترنت، هذه القطاعات توفر مرونة فى العمل من جهة، لكنها فى المقابل تفتقر إلى الحد الأدنى من الضمانات الاجتماعية.
ويؤكد التقرير أن هذه الأنشطة لم تعد مؤقتة أو ظرفية، بل أصبحت تمثل جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمى الحديث، ومصدر دخل رئيسى لملايين الأشخاص، خصوصًا فى الدول النامية التى لا توفر فرص عمل تقليدية كافية، كما أصبحت وسيلة لتجاوز الحواجز الجغرافية فى العمل، عبر نماذج العمل الحر والمستقل الرقمى.
يحذر التقرير من أن استمرار تجاهل هذه القطاعات فى التشريعات الوطنية والدولية سيؤدى إلى مزيد من التفاوتات فى الحقوق والحماية، ويُهدد مبادئ العمل اللائق والعدالة الاجتماعية، مما يجعل تنظيمها أولوية تشريعية عالمية، حيث أن هذه القطاعات التى أصبحت جزءا حيويا من البنية الاقتصادية العالمية تواجه تحديات قانونية وتنظيمية معقدة تتطلب حلولا شاملة ومبتكرة.
ورغم الفوائد الاقتصادية الواضحة لاقتصاد المنصات، إلا أن هذا النمو السريع صاحبته فجوات قانونية وتشريعية خطيرة أدت إلى تفاقم مشاكل العمل غير المنظم، وأكد التقرير أن العمال فى المنصات يعانون من هشاشة واضحة فى ظروف العمل وعدم الاستقرار المهنى، إلى جانب نقص حاد فى الضمانات الأساسية التى يتمتع بها العمال التقليديون.
تشمل هذه المشاكل غياب الأجور العادلة والحد الأدنى المضمون، وعدم توفر الإجازات المدفوعة أو التأمينات الصحية والاجتماعية، كما يفتقر معظم عمال المنصات إلى حق التنظيم النقابى والمفاوضة الجماعية، مما يتركهم فى موقف ضعيف أمام الشركات التى تدير هذه المنصات، ولا تقتصر هذه المشاكل على دولة واحدة، بل تمتد عبر القارات، مما يستدعى تدخلا دوليا منسقا لضمان حقوق هؤلاء العمال.
ويواجه المؤتمر تحديا جوهريا يتمثل فى غياب تعريف قانونى موحد لعامل المنصة، وهى قضية محورية لأنها تحدد مستوى الحماية القانونية التى يحصل عليها هؤلاء العمال، وتختلف البلدان اختلافا كبيرا فى تصنيف عمال المنصات، حيث تعتبرهم بعض الدول "مستخدمين" يخضعون لحماية قوانين العمل التقليدية، بينما تصنفهم دول أخرى كـ"عاملين لحسابهم الخاص" مما يحرمهم من معظم الحقوق والضمانات.
وبرزت خلافات حادة بين الأطراف المختلفة حول هذا التصنيف، فالنقابات العمالية تطالب بتعريف واسع يشمل جميع من يؤدون عملا عبر المنصات، بغض النظر عن وضع استخدامهم، طالما لا يديرون حسابًا تجاريا مستقلًا بالكامل. وتشدد هذه النقابات على ضرورة إدراج حتى أولئك العاملين الذين يتمتعون بقدر ضئيل من الاستقلالية، لأنهم فعليا يخضعون لشروط عمل تفرضها المنصة من خلال تقييمات العملاء والخوارزميات وأنظمة التسعير.
فى المقابل، ترفض الغالبية العظمى من منظمات أصحاب العمل هذا التوصيف الواسع، معتبرة أن عمال المنصات لا تربطهم علاقة تبعية مباشرة بالمنصة، ويتمتعون بالمرونة الكاملة فى قبول أو رفض المهام والعمل لدى أكثر من منصة فى أن واحد، وتحذر هذه المنظمات من أن توصيف عمال المنصات كـ"عاملين مستخدمين" قد يهدد نماذج العمل المرنة ويحمل المنصات مسؤوليات لا تتناسب مع طبيعة العلاقة القائمة.
أيدت معظم الحكومات تعريفا عاما مرنا يشمل مختلف الفئات، مع اقتراح بعض الدول استثناء العاملين لحسابهم الخاص الذين يتمتعون بمستوى عال من الاستقلالية، وأشارت عدة حكومات إلى أن غياب تعريف موحد خلق ارتباكا قانونيا كبيرا، وأدى إلى تباين فى المعاملة بين الدول، بل وأحيانا داخل الدولة الواحدة بين منصات مختلفة.
فى ضوء هذه التحديات، اقترحت منظمة العمل الدولية حزمة شاملة من التوصيات تهدف إلى إرساء أسس العدالة فى عالم العمل الرقمى، وتركز هذه التوصيات على اعتماد اتفاقية دولية تكمل بتوصية تتناول خصوصيات اقتصاد المنصات، مع وضع تعريف دقيق لعامل المنصة يضمن عدم تمييعه فى تصنيفات قانونية ضبابية.
تشمل التوصيات ضمان حزمة من الحقوق الأساسية لعمال المنصات، تتضمن الحق فى الأجر العادل والحد الأدنى للأجور، وكفالة السلامة والصحة المهنية خاصة للعمال الميدانيين مثل سائقى التوصيل. ويؤكد التقرير على أهمية الحق فى الشفافية بشأن كيفية تقييم الأداء والخوارزميات المستخدمة فى توزيع المهام، إلى جانب ضمان حق التنظيم النقابى والمفاوضة الجماعية.
لا تقتصر التوصيات على الجوانب القانونية، بل تشمل أيضًا تعزيز الحوار الاجتماعى بين الحكومات وأصحاب العمل والنقابات حول التنظيم الفعال للعمل الرقمى. كما تؤكد على ضرورة تحديد مسؤولية المنصات تجاه العاملين الذين يعتمدون عليها كمصدر دخل أساسى، مع توفير مرونة تشريعية للدول بما يتناسب مع ظروفها الوطنية دون التخلى عن المعايير الأساسية لحقوق الإنسان فى العمل.
يرى خبراء منظمة العمل الدولية أن المنظمة تواجه اليوم لحظة تاريخية مشابهة لتلك التى شهدت صياغة اتفاقيات العمل التقليدية فى أعقاب الثورة الصناعية فى القرن العشرين. لكن التحدى هذه المرة يتعلق بالثورة الرقمية ومستقبل العمل فى عصر الذكاء الاصطناعى والخوارزميات المتطورة، مما يتطلب مقاربة جديدة تضمن تحقيق "العدالة الاجتماعية الرقمية".
يؤكد التقرير أن إقرار صك دولى عصرى ومنصف سيسهم فى تعزيز الثقة فى المنصات الرقمية كجزء أصيل ومستدام من منظومة العمل العالمية، وهذا أمر بالغ الأهمية فى وقت تشهد فيه العديد من الدول نزاعات قضائية متزايدة حول طبيعة العلاقة بين المنصات والعاملين، مما يخلق عدم يقين قانونى يضر بجميع الأطراف المعنية.
يسعى التقرير إلى إرساء توازن دقيق بين الحفاظ على المرونة التى يوفرها اقتصاد المنصات والتى تعتبر من أهم مزاياه، وبين ضرورة ضمان الحقوق الأساسية للعمال. وهذا التوازن ليس مجرد تحدٍ تقنى، بل يمثل جوهر النقاش حول مستقبل العمل فى القرن الحادى والعشرين.
لتحقيق هذا الهدف المعقد، اقترح التقرير اعتماد لغة مرنة فى الصك الدولى المقترح تتيح التكيف مع اختلاف الأنظمة القانونية والاقتصادية فى الدول المختلفة، دون الإخلال بجوهر مبادئ العمل اللائق. وهذا يعنى أن الاتفاقية المقترحة ستحتاج إلى أن تكون قابلة للتحديث والتطوير لمواكبة التطور السريع فى التكنولوجيا ونماذج الأعمال الرقمية.
مع تزايد اعتماد الاقتصاد العالمى على المنصات الرقمية وتوقع استمرار هذا النمو فى السنوات القادمة، تكتسب قرارات مؤتمر العمل الدولى أهمية استثنائية فى تشكيل مستقبل العمل لملايين الأشخاص حول العالم. ويمثل هذا النقاش فرصة تاريخية لضمان أن التطور التكنولوجى يخدم الإنسان ولا يأتى على حساب كرامته وحقوقه الأساسية فى العمل.
يتطلع المراقبون إلى أن تؤدى هذه المناقشات إلى إحداث نقلة نوعية فى حماية حقوق العمال، وأن تساهم فى بناء نموذج مستدام للاقتصاد الرقمى يجمع بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وفى نهاية المطاف، فإن نجاح هذه الجهود سيعتمد على قدرة المجتمع الدولى على التوصل إلى توافق يحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف المعنية، مع إعطاء الأولوية لحماية العمال الذين يشكلون عماد هذا الاقتصاد الجديد.