على أرض مصر، لم تكن زيارة العائلة المقدسة حدث كنسي أو مجرد محطة في مسار الهروب من الملك هيرودس، بل كانت بداية لرسالة أعمق، تثبت أن هذه البلاد كانت ولا تزال أرض الأمن والملاذ والملجأ عبر العصور، إذ تتجلى فيه قيمة مصر في التاريخ المقدس، ومكانتها كرمز للضيافة والنجاة والقداسة.
تعود هذه الرحلة المباركة لتذكر الجميع بأن مصر كانت أول ملجأ لطفل مهدد بالموت، وأول حضن آمن لأمٍ خائفة ونجارٍ متعب. رحلة محفوفة بالخطر، لكنها محمولة بالإيمان، عبرت فيها العائلة المقدسة من بيت لحم إلى قلب الدلتا، مرورًا بصحراء سيناء ووادي النيل، تاركة أثرًا روحيًا ومجتمعيًا على امتداد البلاد.
وبالرغم من اختلاف الطقوس والكنائس، يبقى "عيد دخول العائلة المقدسة إلى مصر" مناسبة جامعة للطوائف المسيحية، وفي هذا التقرير، نوضح كيف ترى كل طائفة من الطوائف المسيحية المختلفة تلك الرحلة المباركة، وما الرسائل التي تحملها ذكراه في وجدانهم، روحيًا ووطنيًا.
"عيد دخول المسيح أرض مصر. عيد وطني وروحي بامتياز، يحمل في طياته معاني التاريخ والانتماء" بهذه الكلمات يبدأ القس بطرس فؤاد، كاهن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حديثه عن العيد، مؤكدًا أن الأمر الإلهي الذي تلقاه يوسف النجار لم يكن مجرد هروب من بطش هيرودس، بل كان اختيارًا إلهيًا لأرض مصر تحديدًا كي تحتضن الطفل يسوع: "لو كان يوسف يريد النجاة فقط، لعاد إلى الجليل حيث يعرف الأرض والناس، لكنه أطاع أمرًا إلهيًا قاده إلى أرض غريبة، في وقت كانت مصر تُعرف بأنها رمز العبودية. لكن الله أراد أن يُحول هذا الرمز إلى بركة".
ويؤكد القس بطرس فؤاد أن رحلة العائلة المقدسة لم تكن مجرد تنقل، بل مسار مليء بالمعجزات والمواجهة، بالرفض والقبول، بالاختباء والمجاهرة: "الرحلة كانت صعبة جدًا.. سفر طويل وسط مخاطر من الجنود، تنقل من مكان لآخر، ورفض في بعض المدن لأنهم غرباء لا لغة ولا معرفة. لكن هذا كان سبب بركة لينا بأرض مصر، إن السيد المسيح بنفسه داس أرض مصر ومشى عليها". لافتًا إلى رمزية كبيرة في وجود المسيح في مصر في طفولته، حيث كانت أول أرض مشى عليها، وأول طعام أكله، وأول حياة بشرية عاشها كطفل طبيعي كانت في مصر، مؤكدًا: "المسيح دشن أقدس كنيسة في العالم، وهو دير المحرق عندما زاره".
وفيما يخص احتفال الكنائس المختلفة، يوضح القس بطرس أن عيد دخول المسيح مصر بات مساحة مشتركة حقيقية للطوائف كلها: "حتى مع اختلافاتنا، الكل بيقدر هذا العيد. وعبر مجلس كنائس مصر سعينا لتنظيم احتفال مشترك يجمعنا كطوائف.. فيوم العيد هو توحيد للمسيحية". مضيفًا: "علينا أن نفتخر أن بلادنا مختاره، ووطئ أرضها المسيح، وباركها".
مصر الملاذ الآمن منذ الأزل
اتفقت الكنيسة الكاثوليكية فى ذلك، فترى أن هذا العيد الذي لا يعتبر فقط مناسبة دينية، بل لحظة وطنية تحمل دلالات روحية عميقة، إذ يتجاوز الطقوس المسيحية ليمس هوية مصر نفسها، وهذا ما أكده الأب يوحنا سعد: "عيد دخول العائلة المقدسة إلى مصر هو من الأعياد التي أعتبرها مصرية بامتياز، لأنه يحمل شقين: الأول هو شق العائلة المقدسة — العذراء مريم، القديس يوسف، والطفل يسوع — والثاني هو شق وطني مصري، لأن الحدث نفسه جرى على أرض مصر، فصار عيدًا يعكس هوية مصر الروحية والإنسانية".
يتأمل الأب يوحنا في مشاعر العائلة المقدسة لحظة دخولها مصر، فيقول: "كان هناك خوف واضطراب، شعور بعدم الأمان، لأن الطفل يسوع كان مهددًا بالموت. لكن وسط هذا الألم، كانت هناك ثقة راسخة بأن الله يحفظهم، تلك الثقة التي تعززت بإشارات إلهية متكررة. مضيفًا: "رغم القلق، كانوا يرون يد الله ترعاهم وترافقهم، وكانوا يزدادون وعيًا بأن هذا الطفل هو المخلص. ومن هنا، العيد يحمل أيضًا رسالة روحية عميقة حول قيمة مصر كأرض احتضان وحماية".
يشرح الأب يوحنا: "مصر هي الحامية منذ القدم، استقبلت إبراهيم وسارة، واحتضنت موسى وهو طفل، وكانت موطنًا للعائلة المقدسة في الرعاية والحماية. واليوم، تواصل دورها هذا باستقبال اللاجئين من سوريا والعراق والسودان، وتحتضن نحو تسعة ملايين إنسان هاربين من الحروب والإرهاب، وتمنحهم معاملة الأبناء. فـ مصر لا تزال لها رسالة وطنية من قِدم الزمن وحتى الآن. مصر أم حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. فهي بلد الأمن والأمان".
وعن الاحتفال الكنسي، يوضح: "الكنائس جميعها، كالكاثوليكية والإنجيلية والأرثوذكسية، تقيم قداسات احتفالية بهذه المناسبة، نتأمل خلالها هروب العائلة المقدسة، وأسباب هذا الهروب، ونستعرض المسار الذي قطعته داخل مصر. ونقوم أحيانًا بتنظيم زيارات إلى الأماكن التي مرت بها العائلة، تعزيزًا للبعد الروحي والسياحي".
ويرى الأب يوحنا أن العيد يمثل فرصة نادرة لحوار كنسي أعمق: "هو مناسبة روحية تجمعنا، وتؤكد وحدة الطوائف المسيحية في حب مشترك لهذا الحدث المصري الكنسي الفريد". مؤكدًا: "مصر بلد الأمن والأمان، وقد اختارتها العائلة المقدسة ملاذًا. وكما قال الكتاب المقدس "مبارك شعب مصر"، فهي الأرض التي خطا عليها السيد المسيح والعذراء مريم والقديس يوسف، فصارت أرضًا مقدسة. مصر احتوت كل من أتاها، فصهرتهم في هويتها، وتصبح إن جاز التعبير "منارة الوطن العربي"، وذلك بثقلها الديني والثقافي والإنساني، بوحدتها الوطنية، وبقيادتها. مصر غنية بمساجدها وكنائسها، بالأزهر والكنيسة، بآثارها وتاريخها، وهي بحق أم الدنيا".
حكاية وطن صار ملجًا مقدسًا
وشارك الأب فيليبس عيسى، كاهن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر، رؤيته لهذا العيد الذي يتجاوز حدود الكنيسة ليصل إلى قلب الوطن، قائلاً: "عيد دخول العائلة المقدسة إلى مصر هو عيد فريد ومتميز، لا يخص الكنيسة وحدها، بل يمتد أثره إلى مصر بأكملها، وإلى كل إنسان يعيش على أراضيها المبارك. هو عيد مصري في عمقه الروحي والوطني".
يتحدث الأب فيليبس عن المشقة التي واكبت العائلة المقدسة في رحلتها، مشيرًا إلى أن "الظروف التي صاحبت تنقلهم كانت شاقة ومليئة بالمخاطر والخوف. لكنها كانت أيضًا مطمئنة وسلام بوجود الطفل يسوع المسيح، في حضن أمه القديسة مريم، وبرفقة الشيخ يوسف النجار". متابعًا: "ابنها يسوع كان سندًا لها، يمنحها القوة في أول اختبار قاسٍ لها في مواجهة الألم والاغتراب داخل أرض واسعة وغريبة".. مضيفًا: "نقيم في الكنيسة السريانية صلوات مختلفة، وحفلًا خاصًا نستذكر فيه زيارة العائلة المقدسة لأرض مصر".
كانت مصر كانت عبر التاريخ لوحة فنية جميلة من خريطة هذا العالم الواسع، هذا ما أوضحه كاهن الكنيسة السريانية: "تاريخ مصر وثقافتها ودياناتها وحضارتها هي علامة من اختيار الله لها لتغدو أروع وألمع وأكثر إشعاعًا". ويختتم الأب فيليبس: "ليكن هذا العيد المبارك سببًا للبركة والسلام، ليس فقط لمصر، بل لكل العالم، وخاصة تلك البلاد التي تعاني من ويلات النزاعات والحروب والكوارث".
وعن رؤية الكنيسة الإنجيلية، يؤكد القس رفعت فكري، أن عيد دخول العائلة المقدسة إلى مصر لا يُعد فقط مناسبة كنسية، بل حدثًا تاريخيًا وروحيًا يكرس مكانة مصر ودورها المحوري: "هو عيد مهم نستعيد فيه ذكرى زيارة السيد المسيح وأمه العذراء مريم ويوسف النجار إلى بلادنا قبل أكثر من ألفي عام. إنها زيارة تؤكد مكانة مصر في النبوة والكتاب المقدس، حيث ورد في العهد القديم "من مصر دعوت ابني". وهذا يُظهر أن مصر كانت وستظل دولة محورية في كل التاريخ الإنساني".
مصر وطن يحتضن اللاجئين منذ القدم
يتأمل القس رفعت في خلفية الحدث، قائلاً: "كانت العائلة المقدسة تهرب من بطش هيرودس الملك، ذلك الطاغية الذي أمر بقتل الأطفال خوفًا على عرشه. في ظل هذا القلق والاضطراب، ظهر الملاك ليوسف النجار وأمره بالهرب إلى مصر. ورغم شدة الظروف، كانت الطمأنينة تحيط بالعذراء، لأنها كانت تعلم أن ابنها هو المسيح، المبشر به من الملاك، والمصان من كل شر".
ويرى أن هذا العيد يحمل رسالة أعمق: "عيد دخول العائلة المقدسة هو تذكير بأن مصر كانت منذ أيام المسيح بلد الأمن والأمان، وهي لا تزال كذلك. اليوم تستضيف مصر مئات الآلاف من اللاجئين من السودان وسوريا وغيرها، وما زال الناس يرون فيها وطنًا ثابتًا قويًا راسخًا، وهذا بدوره يدفعنا كمصريين أن نحافظ على بلدنا وآمنها وسلامها".
ويتابع القس رفعت: "الكنيسة الإنجيلية تحيي هذه الذكرى من خلال العظات التي تسلط الضوء على النبوة في سفر هوشع، وعلى الأحداث التي وثقها العهد الجديد، كما تتحدث عن دلالات الزيارة في تاريخ مصر الروحي والوطني".
ويؤكد القس رفعت على ما يجمع الطوائف المسيحية في هذا العيد: "نحن كطوائف نؤمن بميلاد المسيح من العذراء، وبالصليب والقيامة، وبمجيئه الثاني، ونتشارك الإيمان بهذه الرحلة المباركة. مضيفًا برؤية وطنية: "مصر بلد الحضارة، والمضياف الكريم. ونحن بحاجة إلى استغلال هذه المناسبة لنشر الوعي بأهمية المسار، سواء في المدارس والجامعات أو من خلال الترويج له سياحيًا خارج مصر. فزيارة المسار ليست مجرد عبادة، بل مصدر بركة وخير لمصر بأكملها".