كتب إبراهيم حسان
"جرينلاند" في مرمى الأطماع الأمريكية.. لماذا ترغب الولايات المتحدة في شراء جزيرة جرينلاند الدنماركية؟.. حلم قديم وُلد في عهد ترومان ويتجدد مع ترامب.. وكنوز الجليد والممرات الاستراتيجية تشعل الصراع الجيوسياسي
"جرينلاند".. معركة القوى العظمى على بوابة القطب الشمالي
هل يحقق الرئيس الأمريكي حلم أسلافه بعد 79 سنة من المحاولات؟
كنوز الجليد والممرات الاستراتيجية تشعل الصراع الجيوسياسي
المخاوف من نفوذ روسيا والصين في القطب الشمالي تقلق مصالح البيت الأبيض
الحكم الذاتي يتمسك بالاستقلال وواشنطن لا تستبعد الخيار العسكري لتنفيذ مخططها
محللون: مساعي ترامب لن تفلح.. وزمن الاستعمار انتهى
لطالما كانت جزيرة جرينلاند، بموقعها الاستراتيجي وثرواتها الطبيعية الهائلة المخفية تحت كتل الجليد العملاقة، محط أنظار القوى العالمية، إلا أن الاهتمام الأمريكي بلغ ذروته في عام 2019، عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رغبته في شراء الجزيرة من الدنمارك، في محاولة لإحياء حلم أسلافه الذي لا يزال يراوده بقوة في ولايته الجديدة، ما أثار جدلًا واسعًا وعالميًا في الأوساط السياسية الدولية.
الطرح الأمريكي الذي بدا كمزحة في البداية، يطرح تساؤلات عديدة حول الدوافع الحقيقية وراء سعي واشنطن المتجدد لضم جزيرة جرينلاند الدنماركية، لما تتمتع به من موقعا استراتيجيا فريدا في القطب الشمالي، إذ تعد مفتاحًا للنفوذ في منطقة القطب الشمالي التي تشهد تنافسًا متزايدًا بين القوى الكبرى، ولما تحمله من ثروات واعدة خصوصًا مع تزايد الاهتمام بالموارد الطبيعية هناك نتيجة لتغير المناخ وذوبان الجبال الجليدية العملاقة.
وبينما ترفض الدنمارك التي تسيطر على الجزيرة، أي فكرة لبيعها، تبقى واشنطن مصممة على تعزيز وجودها العسكري والاقتصادي في المنطقة، مما يعزز من غموض مستقبل الجزيرة في ظل التنافس الدولي المحتدم، ليبقى السؤال حائرًا!.. هل ستظل جزيرة جرينلاند عصية على الأطماع الأمريكية أم أنها ستصبح ورقة جديدة في لعبة النفوذ العالمي؟
جرينلاند.. بين الجليد والاستقلال
رسميًا تعد جرينلاند أكبر جزيرة غير قارية في العالم، إذ يبلغ عدد سكانها 56,000 نسمة، يعيشون على 20% من مساحة البلاد غير المغطاة بالجليد والثلوج التي تسيطر على 80% من مساحتها، وتتمتع بحكومة محلية لكنها أيضًا هي جزء من مملكة الدنمارك، فعلى الرغم من بُعد المسافة بين جرينلاند والدنمارك بحوالي 3532 كيلومترًا، إلا أنها لا تزال ترتبط بالدنمارك سياسيًا وثقافيًا لنحو ألف عام، وأُعيد تعريفها كمقاطعة تابعة للدنمارك، ولها ممثلين في البرلمان الدنماركي "فولكتنج"، بل تسمى جرينلاند في اللغة المحلية "كالاليت نونات" وهي تعني "أرض الشعب".
يعيش معظم سكان جرينلاند على الساحل في مستوطنات ومدن بسبب مناخ القطب الشمالي، إذ يصل ارتفاع الكتل الجليدية العائمة المهيبة أحيانًا إلى عدة طوابق، وتاريخيًا، كان صيد الأسماك والصيد البري مفتاح البقاء على قيد الحياة نظرًا لقصر فصول الصيف، مما يجعل الزراعة شبه مستحيلة بها، باستثناء أقصى جنوب البلاد، حيث تنتشر تربية الأغنام، إلا أن بعض العلماء حذروا في السنوات الأخيرة من انكماش الغطاء الجليدي الهائل نتيجة تغير المناخ الناجم عن أنشطة الإنسان، مما جعله يفقد سنويًا ما يعادل نحو 110 ملايين من المياه وهو بحجم حمامات السباحة الأولمبية.
الحكم الذاتي في جرينلاند
خضعت جزيرة جرينلاند لحكم الدنمارك منذ أوائل القرن الثامن عشر وحتى عام 1979، حين بدأ الحكم الذاتي بها في عام 2009، بعد الموافقة على قانون الحكم الذاتي في استفتاء شعبي، وبموجب الاتفاقية يتمتع كل جرينلاندي بحقوق متساوية مع جميع الدنماركيين الآخرين، وتحتفظ الدنمارك بالسيطرة على الشؤون الدستورية للجزيرة والعلاقات الخارجية والدفاع، بينما تظل السلطة القضائية والتنمية الاقتصادية واللوائح البلدية والضرائب والتعليم ونظام الرعاية الاجتماعية والشؤون الثقافية وكنيسة الدولة، تابع للحكم المحلي، كما احتفظت جرينلاند بنسبة أكبر من عائدات النفط والمعادن، كذلك أدارت جميع الشؤون الداخلية تقريبًا، بما في ذلك العدالة الجنائية، وحلت اللغة الجرينلاندية محل اللغة الدنماركية كلغة رسمية للحكومة.
فيما يتعلق بمركز السلطة في جرينلاند "مجلس الإيناتسيسارتوت"، هو برلمان يُنتخب لمدة أربع سنوات من قِبل جميع البالغين الذين تبلغ أعمارهم 18 عامًا فأكثر، ويضم المجلس عددًا من الأحزاب، من بينها، "سيوموت" وهو حزب ديمقراطي اجتماعي يؤيد تقرير المصير مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع الدنمارك، وحزب "ديموكراتيت" الذي أنشأه فصيل منشق عن سيوموت، أما حزب "أتاسوت" أكثر محافظة في دعم العلاقات التاريخية بين جرينلاند والدنمارك، وهناك حركة "الإنويت أتاكاتيجيت"، التي تطالب بالاستقلال التام عن الدنمارك، وينتخب الإيناتسيسارتوت رئيس الوزراء وأعضاء مجلس لاندستير، وهو المجلس الذي يتولى المسؤوليات التنفيذية بالجزيرة، وعادةً ما يكون رئيس الوزراء زعيم حزب الأغلبية في البرلمان.
اليوم وبعد عقود من الحكم الذاتي لجرينلاند، لا تزال تدعمها الدنمارك بمنحة سنوية كبيرة، ولا يزال صيد الفقمة مصدر دخلها الرئيسي، إلى جانب صيد الأسماك الذي يعد المحرك الرئيسي للاقتصاد، واستقطاب السياح للاستمتاع بمشاهدة الجبال الجليدية العائمة والحيتان الحدباء والدببة القطبية وثيران المسك وحيوانات الفظ والرنة ونسور البحر، وقد سعت الجزيرة إلى تنويع اقتصادها بعدما أصبح الصيد الجائر فيها مصدر قلق متزايد في أواخر القرن العشرين، وركزت بشكل كبير على قطاع السياحة.
لجأت جرينلاند في أوقات مختلفة خلال القرن العشرين إلى استخراج رواسب الكريوليت والرصاص والزنك والفضة والفحم، وافتُتح أول منجم ذهب في الجزيرة عام 2004، وكشفت عمليات الاستكشاف عن رواسب من الحديد واليورانيوم والنحاس والموليبدينوم والماس ومعادن أخرى، ومع الاحتباس الحراري الذي يُذيب كتل الجليد يجعل استكشاف النفط والغاز الطبيعي أكثر سهولة، وتم فتح مساحات من الأراضي لاستغلال المعادن، حيث بات الاستثمار أمام الشركات الأجنبية المهتمة يتزايد للقيام بالاستكشاف والتعدين، لتمثل قضية سياسية محورية في جرينلاند في أوائل القرن الحادي والعشرين، فبدأ التنقيب عن النفط في مياه القطب الشمالي المحيطة بالجزيرة في منتصف عام 2010، كما جرى افتتاح أول محطة للطاقة الكهرومائية في أواخر القرن العشرين.
الحرب العالمية الثانية
مثلت جزيرة جرينلاند خلال الحرب العالمية الثانية موقعًا استراتيجيًا أمام القوى العظمى، في ظل الوضع الأمني الخطير الذي سبق الحرب، والذي كان سببًا في انخراط جرينلاند في المجال الأمني الأمريكي، حيث تقع على مقربة من قارة أمريكا الشمالية، ويقع الجزء الجنوبي منها في منتصف الطريق الجوي المباشر من الولايات المتحدة إلى أوروبا الغربية تقريبًا، بينما يقع جزؤها الشمالي أيضًا في منتصف الطريق الجوي المباشر عبر المناطق القطبية إلى الاتحاد السوفيتي السابق، وقد أتاحت التطورات التكنولوجية خلال السنوات اللاحقة إمكانيات متنوعة للدفاع عن القارة الأمريكية، وهي حقيقة ميّزت مسار الاستراتيجية الأمريكية.
بعد الحرب العالمية الثانية، اعتمدت الولايات المتحدة في البداية على (استراتيجية المحيط) التي تفترض هجومًا انتقاميًا من قواعد على طول حدود الاتحاد السوفيتي، حيث كانت القواعد في جنوب جرينلاند، وخاصةً نارسارسواك، بمثابة نقاط وصل بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، واستُخدم مفهوم نقطة الوصل نفسه أيضًا خلال الحرب العالمية الثانية للحفاظ على خطوط الاتصال عبر المحيط الأطلسي، ومع تطور الطائرات العابرة للقارات، تحولت الولايات المتحدة لاحقًا إلى استراتيجية قطبية، حيث تتمركز قوات الردع في قواعد بالولايات المتحدة أو في مواقع متقدمة في القطب الشمالي، وذلك لضمان أقصر مسافة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، عبر المحيط المتجمد الشمالي، وإلى جانب ذلك، تُشكل بيانات جرينلاند أساسًا للتنبؤ بأحوال الطقس في شمال الأطلسي وأوروبا، ما مثل أمرًا حيويًا للشحن وحركة النقل الجوي عبر شمال الأطلسي.
بداية الحلم الأمريكي
لم تكن رغبة الولايات المتحدة في الاستحواذ على جزيرة جرينلاند وليدة اللحظة، بل تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما عرض الرئيس الأمريكي هاري ترومان عام 1946 فكرة شراء الجزيرة من الدنمارك مقابل 100 مليون دولار، آنذاك، كانت واشنطن ترى في جرينلاند موقعًا استراتيجيًا مهمًا لمراقبة القطب الشمالي والتصدي للنفوذ السوفيتي خلال الحرب الباردة، ورغم رفض كوبنهاجن للعرض، استمرت الولايات المتحدة في تعزيز وجودها العسكري على الجزيرة من خلال قاعدة "ثول" الجوية.
إن فكرة سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على جزيرة جرينلاند الدنماركية تعود إلى القرن التاسع عشر وتحديدا في عام 1867، بعد نجاح صفقة شراء ألاسكا من روسيا، وقتها، طرح وزير الخارجية الأمريكي، ويليام سيوارد، إمكانية شراء الجزيرة الدنماركية بالإضافة إلى أيسلندا لتعزيز النفوذ الأمريكي في القطب الشمالي، لاسيما وأن الاحتلال الأمريكي لجرينلاند سيقضي على المشاكل الأمنية المستقبلية في المنطقة، على أن يتم شراؤها بنفس الطريقة التي تم بها شراء ألاسكا مقابل 7.2 ملايين دولار - وحاول فعل ذلك الرئيس ويليام تافت في عام 1910 - لكن هذه الأفكار لم تتجاوز مرحلة الدراسة فقط.
التدخل الأمريكي
تأثرت السياسة الأمريكية بمبدأ "مونرو1" الذي تحتفظ بموجبه الولايات المتحدة بحق السعي إلى الهيمنة على القارتين الأمريكيتين، لكن مع سياسة العزل الصارمة التي اتبعتها الدنمارك لاحقًا - بفضل موقعها النائي - ظلت جرينلاند بعيدة نسبيًا عن نطاق نفوذ القوى العظمى، وكان الهدف الرئيسي لهذه السياسة الأمنية هو الحفاظ على السيادة الدنماركية على جرينلاند، وفي 4 أغسطس 1916، أعلنت الحكومة الأمريكية أنها لن تعارض توسيع المصالح السياسية والاقتصادية للحكومة الدنماركية، ونجحت الدنمارك في عام ١٩٢٠، في إقناع عدد من الدول بإصدار إعلانات تتعلق بحقها في السيادة على جرينلاند، على غرار ما أصدرته الولايات المتحدة سابقًا، وعندما أرادت بريطانيا العظمى حق الشفعة في حال بيع جرينلاند، أعلنت الحكومة الأمريكية رفضها الاعتراف بحقوق أي دولة أخرى في شراء المصالح الدنماركية في جرينلاند نظرًا لأهمية موقعها الجغرافي.
وقبل الحرب العالمية الثانية، اشترت الشركة الألومنيوم الكندية جزءًا من إنتاج الكريوليت، ولأن الألمنيوم كان من المؤكد سيصبح سلعة مرغوبة خلال الحرب، درست كندا وإنجلترا في أبريل 1940 احتلال جرينلاند لضمان استمرار إمداد الكريوليت، إلا أن الحكومة الأمريكية لم تكن ترغب في تدخل كندي في جرينلاند، قررت في مايو 1940 إرسال سفن من خفر السواحل الأمريكي إلى جرينلاند للقيام بمهام التفتيش والنقل، وأُنشئت قنصليتان أمريكية وكندية في جرينلاند، وفي خريف ذات العام انضم الجيش الأمريكي وقوات الساحل إلى تعاون الحرس في الاستطلاع الجوي لكامل جنوب غرب جرينلاند، وفي عام 1941 وقعت معاهدة للدفاع عن جرينلاند واعترفت بالسيادة الدنماركية عليها، ومنحت الولايات المتحدة الحق في إنشاء وتشغيل مناطق دفاع أو قواعد عسكرية فيها خلال سنوات الحرب، وحصلت الولايات المتحدة على السلطة القضائية الداخلية الكاملة على هذه المناطق.
قاعدة ثول الجوية
تعد قاعدة ثول الجوية (THUBGTL)، التي أسستها الولايات المتحدة الأمريكية سرًا في 60 يومًا، تحت اسم "بلو جاي" على جزيرة جرينلاند الدنماركية، في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، مركزًا عسكريًا وبحثيًا هامًا للولايات المتحدة، حيث مثل موقعها الاستراتيجي بالقرب من القطب الشمالي، دورًا حيويًا في مراقبة الأمن الإقليمي والأنشطة الجوية، كما كان له دورا هامًا في تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة القطبية الاستراتيجية، خلال الحرب الباردة، لاسيما في مراقبة تهديدات وردع هجمات الاتحاد السوفيتي، والتواصل والتنسيق مع القواعد العسكرية الأخرى للحفاظ على توازن القوى في المنطقة القطبية، ولم تعد القاعدة جزءًا من القيادة الجوية الاستراتيجية، بل تخضع إداريًا لقيادة الفضاء التابعة للقوات الجوية الأمريكية.
وتضمن تقريرا سريا صادر عن البنتاجون في عام 1957 موجها إلى الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور أن الحكومة الدنماركية "كانت متعاونة للغاية في منح الولايات المتحدة حرية التصرف في جرينلاند" في إطار اتفاقية عام 1951، وفي ذات العام طلبت الحكومة الأمريكية موافقة الحكومة الدنماركية على إدراج الجزء القطبي الشمالي من جرينلاند في مقترح لإنشاء منطقة تفتيش، وقد وافقت الحكومة الدنماركية في العام نفسه على طلب أمريكي في عام 1958 للحصول على إذن بتركيب مفاعل نووي تحت الجليد الداخلي، وبناء عليه تم تدشين محطة طاقة نووية صغيرة (1.5 ميجاواط)، لكن أُزيلت بعد ثلاثة وثلاثين شهرًا من التشغيل.
وفي الفترة من عام 1958 إلى 1968، كانت تُحلّق ما يُسمى برحلات التأهب الجوي الحاملة للأسلحة النووية يوميًا فوق جرينلاند، وقد منحت اتفاقية عام 1951 الولايات المتحدة حقوق تحليق وهبوط غير محدودة في الجزيرة، ومع ذلك، إلا أنه لم يُفكّر أحدٌ في التحليق بأسلحة نووية في ذلك الوقت، وفي بداية القرن الحادي والعشرين، رفع الإنويت الذين أُجبروا على مغادرة المنطقة المحيطة بالقاعدة في الخمسينيات دعوى قضائية للمطالبة بحق العودة، بعد السماح للولايات المتحدة الأمريكية بتحديث نظام دفاعها الصاروخي في قاعدة ثولي الجوية، حيث عبروا عن مظالمهم أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، محذرين من استمرار التدخل الأمريكي لاسيما بعد تخزين الولايات المتحدة قنابل نووية في الجزيرة خلال الحرب الباردة دون علم جرينلاند رغم الحظر الدنماركي لهذه الأسلحة، بينما زادت المخاطر بين السكان بعد تحطم طائرة عسكرية أمريكية من طراز بي-52 تحمل أربع قنابل هيدروجينية بقوة 1.1 ميجا طن بالقرب من قاعدة ثول في عام 1968.
ومع ذلك، استمرت العلاقة مع الولايات المتحدة، التي ظلت تتواجد في جرينلاند خلال الحرب الباردة "متذبذبة"، رغم إعادة توطين الإنويت من شمال جرينلاند قسرًا في قاعدة ثول، التي اعتبروها ظُلم لم يُعوّضوا عنه إلا بثمن زهيد عام 1999، ولا تزال القاعدة الجوية تُستخدم حتى اليوم لمراقبة الصواريخ العالمية، لكن يبقى التسامح السري مع الأسلحة النووية في قاعدة ثول واحدة من أخطر الفضائح السياسية في تاريخ الدنمارك بعد الحرب.
صفقة عقارية ضخمة
الاهتمام الأمريكي بضم جزيرة جرينلاند لم ينقطع، ففي عام 2019 أعرب الرئيس دونالد ترامب عن رغبته في شراء الجزيرة، معتبرًا شراؤها "صفقة عقارية كبيرة" وقال في تصريح مقتضب: "لديهم الكثير من المعادن الثمينة"، وهو التصريح الذي أثار جدلًا واسعًا في الأوساط العالمية، وقوبل بالرفض والسخرية من المسؤولين الدنماركيين، الذين رفضوا فكرة ترامب قطعًا مؤكدين أن جرينلاند "ليست للبيع على الإطلاق"، كما أدى ذلك إلى توتر العلاقات بين البلدين.
تجديدات ترامب مطالبه بشراء جزيرة جرينلاند الدنماركية تكررت قبل وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولم ينتظر وقتًا طويلًا إلا وأرسل وفد أمريكي إلى منطقة القطب الشمالي لوضع طموحاته إلى دائرة الضوء، الأمر الذي جعل رئيس وزراء جرينلاند المنتهية ولايته، ميوت إيجيدي، يصف رحلة الأمريكان بأنها "استفزاز"، فيما قالت الأحزاب السياسية الخمسة الممثلة في برلمان جرينلاند إنها لا تريد أن تصبح المنطقة جزءًا من الولايات المتحدة، بينما أشار استطلاع للرأي نُشر في فبراير إلى أن 85% من سكان جرينلاند يعارضون أفكار ترامب بضم أراضيهم، إذ قال ما يقرب من نصفهم إنهم يرون مصالح السيد ترامب "بمثابة تهديدا".
في حين، لفت رئيس لجنة التجارة بمجلس الشيوخ الأمريكي تيد كروز، النظر إلى الأهمية الجيوستراتيجية للقطب الشمالي وجرينلاند بالنسبة للمصالح الأمريكية، حيث قال في جلسة استماع عُقدت في فبراير 2025: "إن الاستحواذ على جرينلاند من شأنه أن يخدم الأمن القومي الأمريكي ومصالحه الاقتصادية بشكل جيد بسبب موقع الجزيرة في القطب الشمالي، والوصول إلى الطرق البحرية، وثروة الموارد الطبيعية"، ودقّ السيناتور كروز ناقوس الخطر بشأن الوجود العسكري الروسي الواسع في القطب الشمالي واحتكار الصين الكبير سلسلة توريد المعادن الأساسية في جرينلاند، مشددًا: "لمواجهة طموحات هذه القوى العالمية، يحتاج خفر السواحل الأمريكي إلى بناء أسطول قادر ومتاح من كاسحات الجليد القطبية الثقيلة، بما في ذلك قواطع الأمن القطبي، لدعم البحث العلمي، والدفاع عن السيادة الأمريكية، وضمان تدفق التجارة البحرية بسلامة وأمان".
ويبدو أن عرض ترامب ليست مجرد نزوة سياسية، بل يعكس رؤية استراتيجية طويلة الأمد للولايات المتحدة، إذ تنص استراتيجية وزارة الدفاع الأمريكية للقطب الشمالي، الصادرة في يونيو 2019، تحت عنوان "أهداف وزارة الدفاع للقطب الشمالي"، على أن "التنافس عند الضرورة للحفاظ على توازنات قوى إقليمية مواتية: يُعد القطب الشمالي ممرًا محتملًا - بين منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا، والوطن الأمريكي - لمنافسات استراتيجية موسعة، وقد يقوم المنافسون الاستراتيجيون بأنشطة خبيثة أو قسرية في القطب الشمالي لتحقيق أهدافهم في هذه المناطق، وتحاول كل من الصين وروسيا منافسة الهيمنة الأمريكية عالميًا، ويُوفر القطب الشمالي منطقة جديدة لزيادة النفوذ وتحدي هيمنة الولايات المتحدة في منطقتها، وأن خطاب الصين الذي يصف نفسه بأنه قوة قريبة من القطب الشمالي، والتوقع بأن يكون قوة قطبية عظمى ليس وعودًا فارغة.
في هذا يرى الدكتور نبيل ميخائيل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، أن ترامب لن يفلح في مساعيه الرامية لضم جزيرة جرينلاند الدنماركية، لأنه سوف يجد مقاومة من الاتحاد الأوروبي وسكان جرينلاند، كما سينشغل بمشكلات الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية وقضايا الحرب على غزة وحرب روسيا وأوكرانيا.
وقال ميخائيل، في تصريحات خاصة لـ "اليوم السابع"، إن رغبة ترامب لا تعبر عن رأي راود أسلافه في رئاسة الولايات المتحدة، لكنه يرى أن الصين لها وجود قوي في الجزيرة، وإذا نجحت الولايات المتحدة في ضمها إليها، ستمنع امتلاك بكين لمقاطعة شاسعة بجوار أمريكا، غير أنه يبرر أن الأمر يهم أمن أمريكا القومي حتى لا يتم مهاجمة بلاده من القطب الشمالي أو المحيط الأطلنطي، كما يرغب في استثمار المعادن والثروات الطبيعية التي تملكها جرينلاند لمصلحة الاقتصاد الأمريكي.
وإذ تمثل مطالب واشنطن صداعًا في عقل الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، إلا أنه يرى أن ترامب جاد بشأن ضم جرينلاند في إطار الخطط الأمريكي التي لها جذور تاريخية عريقة، متابعا خلال حديثه بمنتدى مورمانسك أن روسيا مستعدة للدفاع عن مصالحها في القطب الشمالي إذا استخدمت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي المنطقة "كنقطة انطلاق لصراعات محتملة"، غير أنه من الممكن أن يساعد الاستحواذ على جرينلاند الولايات المتحدة أيضًا في اكتساب اليد العليا العسكرية في وقت يتزايد فيه الاهتمام الروسي والصيني بالقطب الشمالي.
وفسرت تقارير دولية أسباب اهتمام ترامب بضم جزيرة جرينلاند الدنماركية، منها سهولة الإبحار عبر مياه القطب الشمالي بين أوروبا وروسيا وأمريكا الشمالية في ظل ذوبان الجليد في القطب الشمالي بسبب الاحترار المستمر لسطح الأرض والمحيط، لكن في الوقت ذاته، نشر الجيش الصيني تقريرا يكشف فيه عن الدوافع الحقيقية وراء اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بضم جرينلاند، والتي تكمن الموارد الطبيعية الهائلة التي تزخر بها الجزيرة، فوفقًا لوزارة الطاقة الأمريكية، تُعد جرينلاند من أكبر احتياطيات النفط غير المُستغلة في العالم، إضافةً إلى غناها بالزنك والكريوليت واليورانيوم ومعادن ثمينة أخرى، وإذا استحوذت الولايات المتحدة على جرينلاند، فستتمكن من الوصول إلى احتياطياتها الهائلة من المعادن الأساسية والوقود الأحفوري، مما يُقلل اعتمادها على المصادر الخارجية للمواد الصناعية مثل العناصر الأرضية النادرة.
في ذلك يستبعد السفير معتز أحمدين خليل، مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة سابقا، أن يفلح ترامب في محاولاته بضم جزيرة جرينلاند الدنماركية، قائلا: "من المستبعد أن ينجح مثل هذا الحلم، مثلما لم ينجح منذ 79 عاما في عصر الأطماع التوسعية للدول الاستعمارية، والآن ظاهرة الاستعمار قد اندثرت وغير معترف بها في العلاقات الدولية".
تابع السفير معتز أحمدين خليل في تصريحات خاصة، أن شعب جرينلاند لا يرغب في ذلك كما أشارت استطلاعات الرأي التي نشرت مؤخرا، كما لا ترغب في ذلك الدنمارك ولا الاتحاد الأوروبي الحليف الأول للولايات المتحدة، رغم الجهود التي يبذلها ترامب لتدميره".
ووفق الجيش الصيني، ترغب الولايات المتحدة في الاستحواذ على جرينلاند أيضًا سعيًا وراء ميزة في منافسة القوى العظمى، لذا يسعى ترامب بقوة لضمها ولا يستبعد الخيار العسكري في سبيل تحقيق ذلك، لاسيما وأن حوالي أربعة أخماس جرينلاند داخل الدائرة القطبية الشمالية، مما يمنحها قيمة جيوسياسية كبيرة، ففي السنوات الأخيرة، كثفت العديد من الدول جهودها في القطب الشمالي، فقامت الولايات المتحدة بتحديث القاعدة الجوية في شمال جرينلاند، وأعلنت من جانب واحد توسيع مطالباتها بالسيادة على مساحات واسعة من الجرف القاري للقطب الشمالي وبحر بيرينغ، وأصدرت استراتيجية القطب الشمالي لعام 2024.
بشأن عدم استبعاد ترامب استخدام الخيار العسكري لضم جزيرة جرينلاند، يعلق مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة سابقا، قائلا: "حديثه غير واقعي ومبالغ فيه كعهد ترامب في تصريحاته، بالتالي من غير المتصور أن يقوم بفتح جولة عسكرية جديدة".
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن السيطرة على جرينلاند لن تزيد فقط من وجودها الإقليمي في القطب الشمالي بشكل كبير، بل ستوفر أيضًا راحة ونفوذًا أكبر في تطوير موارد القطب الشمالي، علاوة على أنها ستسمح للجزيرة بالعمل كقاعدة أمامية للتدخل في الشؤون الأوروبية ومواجهة روسيا، في وقت تحاول فيه الحكومة الدنماركية قطع سبل مساعي واشنطن، حيث أعلنت أنها ستستثمر حوالي ملياري دولار لتعزيز وجودها العسكري في منطقتي القطب الشمالي وشمال الأطلسي، مؤكدةً عزمها على الدفاع عن جرينلاند والحفاظ على مكانتها كدولة في الدائرة القطبية الشمالية.
وشدد الجيش الصيني، على أن ما يُسمى بـ"احتياجات الأمن الاقتصادي" للولايات المتحدة لا يُبرر سعيها وراء دبلوماسية الهيمنة، فمحاولات واشنطن للاستيلاء على جرينلاند من خلال نهج القوة السياسية لن تؤدي إلا إلى دفع الوضع الأمني في القطب الشمالي إلى حافة الخطر، وتفاقم حالة عدم اليقين بشأن السلام والاستقرار العالميين.
كنوز بين كتل الجليد
إن استخدام الموارد المعدنية "غير المكتشفة"، والتي يُحتمل أن تكون كبيرة في جزيرة جرينلاند التي تبلغ مساحتها مليوني كيلومتر مربع، سيحقق دخلًا كبيرًا من شأنه أن يعزز رغبة سكان الجزيرة ويجعلها مكتفية ذاتيًا، لكن وفق التقارير الاقتصادية، يتطلب استخدام موارد جرينلاند استثمارات ضخمة "اقتصادية وبشرية ومعارف علمية"، وبالتالي ستصبح معتمدة بشكل كبير على مصالح رأس المال الأجنبي، وقد يؤدي ذلك التطور الذي يخشاه السكان المحليين إلى وضع أمني صعب في البلاد.
في هذا الجانب، يرى السفير معتز أحمدين خليل، أن الأسباب الحقيقية التي تدفع ترامب لضم جزيرة جرينلاند الدنماركية، نوعين "اقتصادية" تتعلق بتواجد مخزون من المواد النادرة تحت الغلاف الجليدي، وقد أشار محللون إلى أن من الأسباب "استراتيجية" أيضا تتعلق بالسيطرة على الطريق البحري الذي يمر بالقرب من جرينلاند ومنع حرية حركة أساطيل روسيا والصين في هذا الممرر، لكن "الدافع الأهم لترامب هو المبالغة وإثارة الفوضى التي يشتهر بها".
ورغم المعوقات، تعمل إدارة الحكم الذاتي في جرينلاند حاليًا، على تعزيز مناخ أعمال أكثر تميزًا للجزيرة الغنية بالمواد الخام المعدنية، فمنذ عام 1990 عندما بدأ استكشاف موارد الرصاص والزنك في مارموريليك، لم تُجرَ أي عمليات تعدين في الجزيرة، إلا أن هناك برامج استكشاف شاملة للنفط والغاز الطبيعي، بالإضافة إلى المعادن والأتربة النادرة، وفي عام 1991 اعتمدت حكومة جرينلاند تشريعًا جديدًا للتعدين من شأنه يحسن حماية حقوق شركات التنقيب، ووضع شروطًا ولوائح ومتطلبات لاستخراج المواد الخام حتى يمكن الاستفادة من جدواها الاقتصادية في غضون سنوات.
وبدأت شركات التنقيب في منتصف التسعينيات بدراسة الفرص الواعدة لعمليات التعدين، وأظهرت الظروف الجيولوجية في شمال شرق جرينلاند وجود هياكل تشير إلى احتمالية وجود موارد نفطية، في حين أسفر البحث عن النفط عن فرص واعدة في إنتاج الغاز الطبيعي والنفط في المستقبل البعيد، لكن في ظل ظروف جرينلاند القاسية سيتطلب استخراج هذه الموارد استثمارات هائلة جدًا، أما فيما يتعلق باستغلال المياه، فتتمتع الجزيرة بمياه نقية محصورة في الجليد قد تصبح موارد ذات قيمة اقتصادية في يوم من الأيام
ويشير ملخص مُفصّل لعام 2023 نشرته هيئة المسح الجيولوجي الدنماركية وجرينلاند، إلى أنه سيتم اكتشاف رواسب جديدة مع استمرار تراجع الغطاء الجليدي في جرينلاند، حيث تكمن أثمن موارد جرينلاند الطبيعية في ثروتها المعدنية الهائلة، التي تحمل إمكانات حقيقية للنهوض باقتصادها، منها موارد ثمينة كالذهب والبلاتين، وعددًا من المعادن الأساسية كالزنك والحديد والنحاس والنيكل والكوبالت واليورانيوم، بالإضافة إلى عناصر أرضية نادرة كالنيوديميوم والديسبروسيوم والبراسيوديميوم، التي لها أهمية خاصة في تقنيات البطاريات والطاقة الشمسية وطاقة الرياح والتطبيقات العسكرية، وإذا تم تطويرها بالكامل، فإن رواسب اليورانيوم والعناصر الأرضية النادرة في كفانيفيلد - أو كوانيرسويت باللغة الجرينلاندية - ستضع جرينلاند بين أكبر منتجي اليورانيوم والعناصر الأرضية النادرة في العالم.
وفي الوقت الذي يسعى فيه ترامب لتنفيذ رغباته سواء بالسياسة أو بالقوة العسكرية، يحظى أيضًا بدعم بعض الجمهوريين لتنفيذ مخططاته، حيث قدّم النائب بادي كارتر مشروع قانون في الفترة الأخيرة يُخوّل ترامب الدخول في مفاوضات مع الدنمارك بشأن جرينلاند وإعادة تسميتها بـ "الأرض الحمراء والبيضاء والزرقاء"، وبالنسبة للكثيرين من قاعدة ناخبي الرئيس الجمهوري، فإن الاستحواذ على أراضٍ جديدة سيُناسب توجهاتهم القومية والإمبريالية، أما إذا تحققت هذه الخطة، فسيُسجّل ترامب مكانًا في تاريخ الولايات المتحدة كثالث رئيس يضيف أرضًا إلى أراضي البلاد.