أصدرت الدائرة الجنائية (هـ) – بمحكمة النقض – حكما قضائياً فريدا من نوعه، بإلغاء حكم حبس شخص سنة، والقضاء مُجددا ببرائته من تهمة التزوير، وتُرسخ لمبدأ قضائي هام في قضايا التزوير والإبلاغ الكاذب، وهو ضرورة بناء الإدانة على أدلة ثابتة وقاطعة، وتأكيد أن التحريات وحدها لا تكفي ما لم تُعزز بأدلة أخرى موثوقة، ويؤكد كذلك أن الأصل في الإنسان البراءة، ولا تهدر إلا بيقين لا ظن معه، قالت فيه:
"1-لا إدانة دون دليل يقيني.
2- الأحكام يجب أن تُبنى على أدلة يقينية قطعية الثبوت لا على الظن والاحتمالات.
3- لا يجوز إدانة المتهم بناءً على تحريات الشرطة وحدها دون بيان مصدرها أو التحقق منها.
4- لا يكفي مجرد التمسك بمحرر مزور لإدانة المتهم بالاستعمال مع العلم بالتزوير ما لم يثبت علمه الأكيد".
صدر الحكم في الطعن المقيد برقم 8873 لسنة 92 قضائية، برئاسة المستشار هشام فرغلي، وعضوية المستشارين كمال عبد اللاه، ووائل الشيمي، ومحمد الحنفي، ومحمد الوكيل، وبحضور كل من رئيس النيابة العامة لدى محكمة النقض أحمد شملول، وأمانة سر محمود السبيعي.
الوقائع.. واقعة تزوير لموظفين عموميين
اتهمت النيابة العامة الطاعن - وآخرين سبق الحكم عليهم - في قضية الجناية المقيدة برقم 352 لسنة 2022 جنايات قسم ميت غمر، والمقيدة بالجدول الكلى برقم 44 لسنة 2022 كلي المنصورة، بأنهم في غضون عام 2017 بدائرة قسم ميت غمر - محافظة الدقهلية، المتهمون جميعاً:
1-اشتركوا بطريقي الاتفاق والمساعدة مع آخرين حسني النية وهما الموظفين العموميين "امينة. أ"، و"محمد. م"، والمختصين بتقارير المعارضة والاستئناف والمعارضة الاستئنافية بنيابه مركز ميت غمر في ارتكاب تزوير في ثلاث محررات رسمية، تقارير المعارضة والاستئناف والمعارضة الاستئنافية في الجنحة الرقيمة 952 لسنة 2017 جنح قسم ميت غمر والمستأنفة برقم 14871 لسنة 2017 مستأنف المنصورة، وكان ذلك بأن أمد الأول المتهم الثاني بالتوكيل الرقيم 1458 لسنة 2015 توثيق أوليله والثابت به وكالته عن المجني عليه "السيد. م"، فمثل الثاني أمام الموظفين السالف ذكرهم، ووقع بإسمه في التقارير أنفة البيان وجعل صورة واقعة مزورة في صورة واقعه صحيحة، وهي رغبة المجني عليه سالف الذكر في اتخاذ إجراءات التقرير بالمعارضة والاستئناف والمعارضة الاستئنافية في القضية آنفة البيان فأثبتها الموظفين العموميين سالفي الذكر في التقارير المعدة لذلك فتمت الجريمه بناء على هذا الاتفاق وتلك المساعدة وعلى النحو المبين بالتحقيقات.
2- استعملوا المحررات المزورة محل الاتهام السابق فيما زورت من أجله، وذلك بأن احتجوا بصحتها وصحة نسب ما دون بها إلى المجني عليه أمام الموظفين العموميين المختصين مع علمهم بأمر تزويرهم وتمكنوا من الاستحصال على حكماً نهائياً باتاً ضد المجني عليه سالف الذكر بموجبهم وعلى النحو المبين بالتحقيقات.
3- اشتركوا بطريقي الاتفاق والمساعدة مع آخر مجهول في إرتكاب تزوير محررات أحد الناس، إيصال الأمانة سند 952 لسنة 2017 جنح قسم ميت غمر والمستأنفة برقم 14871 لسنة 2017 مستأنف المنصورة، وكان ذلك بطريق الاصطناع بأن أمدوا ذلك المجهول بالبيانات اللازمة عدا بيان الطرف الموصل إليه فقام المجهول بضبطه وتزوير توقيع المجني عليه "السيد. م" على ذلك الإيصال وقام المتهم الثالث - بتحرير بيان الطرف الموصل إليه "أحمد. م"، فوقعت الجريمة بناء على هذا الاتفاق، وتلك المساعدة على النحو المبين بالتحقيقات.
3- اشتركوا بطريقي الاتفاق والمساعدة مع آخر حسن النية وهو المحام "محمد. إ" في استعمال المحرر المزور محل الاتهام الثالث فيما زور من أجله بأن أمد المتهم الثالث المحرر المزور أنف البيان للمحام سالف الذكر محتجاً بصحته وكونه مديونية المجني عليه سالف الذكر للمتهم الرابع مع علمهم بذلك فمثل الأخير وبيده المحرر أنف البيان ومحتجاً أيضاً بصحته أمام الموظف العمومي المختص "السعيد. م"، "أمين شرطة بقسم شرطه ميت غمر"، فتمت الجريمة بناء على هذا الاتفاق وتلك المساعدة على النحو المبين بالتحقيقات.
4- اشتركوا بطريق الاتفاق والمساعدة مع آخر حسن النية وهو المحام "محمد. إ" في الإبلاغ كذباً مع سوء القصد ضد المجني عليه "السيد. م" عن الواقعة المحرر بها الجنحة آنفة البيان بأمور لو صحت لأوجبت عقابه بالعقوبات المقررة لذلك قانوناً مع علمهم بكذب بلاغهم وذلك بأن اتفقوا على إبرام التوكيل الرقيم 8896 حرف (و) لسنة 2016 توثيق الجيزة - والثابت به وكالة المحام سالف الذكر عن المتهم الرابع -وأمد به المتهم الثالث - به وكذا المحرر المزور محل الاتهام الثالث قامت الجريمة بناء على هذا الاتفاق وتلك على النحو المبين بالتحقيقات.
5- شرعوا في الحصول بالتهديد على مبالغ مالية من المجني عليه سالف الذكر وذلك بأن قاموا بإقامة القضية الرقيمة 952 لسنة 2017 جنح قسم ميت غمر والمستأنقة برقم 14871 لسنة 2017 مستأنف المنصورة والاستحصال على أحكام نهائية بها إلا أنه قد خاب آثر جريمتهم لسبب لا دخل لإرادتهم به وهو تمكن المجني عليه من إثبات تزوير الإيصال سند الجنحة، وذلك على النحو المبين بالتحقيقات.
محكمة الجنايات تقضى بسجن المتهم (غيابيا) 5 سنوات ثم سنة حبس
وفى تلك الأثناء - أحالته النيابة العامة إلى محكمة جنايات المنصورة لمحاكمته طبقاً للقيد والوصف الواردين بأمر الإحالة، والمحكمة المذكورة قضت - غيابياً - في 29 من ديسمبر سنة 2021 بمعاقبة "جمال. أ"، بالسجن المشدد لمدة 5 سنوات عما أسند إليه، وأعيدت الإجراءات والمحكمة المذكورة قضت حضورياً في 28 من فبراير سنة 2022 بمعاقبة "جمال. أ" بالحبس مع الشغل لمدة سنة واحدة عما أسند إليه، وأمرت بإيقاف عقوبة الحبس المقضي بها لمدة 3 سنوات تبدأ من تاريخ اليوم، ومصادرة المحررات المزورة، وفي الدعوى المدنية بإحالتها للمحكمة المدنية المختصة.
المتهم يطعن على الحكم لإلغائه
وتم الطعن على الحكم لإلغائه، واستندت مذكرة الطعن على العديد من الأسباب، حيث ذكرت إن ما ينعاه الطاعن على الحكم المطعون فيه أنه إذ دانه - وآخرين سبق الحكم عليهم وأخر مجهول - بجرائم الاشتراك مع موظفين عموميين حسني النية بطريقي الاتفاق والمساعدة في تزوير محررات رسمية - تقارير المعارضة والاستئناف والمعارضة الاستئنافية بالجنحة رقم 952 لسنة 2017 قسم ميت غمر والمستأنفة برقم 14871 لسنة 2017 جنح مستأنف المنصورة وإيصال الأمانة سند الجنحة - واستعمالها مع العلم بتزويرها، والإبلاغ الكاذب بسوء نية ضد المجني عليه والشروع في الحصول على مبالغ مالية عن طريق التهديد، قد شابه القصور في التسبيب، والفساد في الاستدلال، ذلك بأنه لم يستظهر عناصر الاشتراك وطريقته والدليل على توافره في حقه، ولم يدلل على توافر علمه بتزوير المحررات المضبوطة، وبنى الإدانة على مجرد أدلة ظنية وافتراضات لا تصلح لإقامة مسئولية الطاعن عن الجرائم المسندة إليه، كما استند في قضائه على تحريات الشرطة رغم عدم صلاحيتها كدليل للإدانة، كل ذلك يعيب الحكم ويستوجب نقضه.
المحكمة في حيثيات الحكم قالت: إنه ولئن كان من حق محكمة الموضوع أن تستخلص واقعة الدعوى من أدلتها وسائر عناصرها إلا أن ذلك مشروط بأن يكون استخلاصها سائغاً وأن يكون الدليل الذي تعول عليه مؤدياً إلى ما رتبه عليه من نتائج من غير تعسف في الاستنتاج ولا تتنافر مع حكم العقل والمنطق، كما أنه وإن كان الاشتراك في الجريمة يتم غالباً دون مظاهر محسوسة يمكن الاستدلال بها عليه، ويكفي لثبوته أن تكون المحكمة قد اقتنعت بحصوله من ظروف الدعوى وملابساتها، ولها أن تستقي عقيدتها في ذلك من قرائن الحال، إلا أنه من المقرر أن مناط جواز إثبات الاشتراك بطريق الاستنتاج استناداً إلى القرائن أن تكون تلك القرائن منصبة على واقعة الاتفاق على ارتكاب الجريمة أو التحريض أو المساعدة في ذاتها وأن يكون استخلاص الحكم للدليل المستمد منها لا يتجافي مع العقل والمنطق، وكان من المقرر أيضاً أن جريمة استعمال الورقة المزورة لا تقوم إلا بثبوت علم من استعملها أنها مزورة ولا يكفي مجرد تمسكه بها أمام الجهة التي قدمت لها، ما دام لم يثبت أنه هو الذي زورها أو اشترك في هذا الفعل.
المادة 40 من قانون العقوبات في الجرائم
وبحسب "المحكمة": لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد دان الطاعن بجرائم الاشتراك في تزوير محررات رسمية ومحرر لأحاد الناس واستعمالها مع العلم بتزويرها ولم يدلل على أنه قد اشترك مع باقي المتهمين - المحكوم عليهم غيابياً - والشخص المجهول بطريق من طرق الاشتراك المنصوص عليها في المادة 40 من قانون العقوبات في الجرائم المنسوبة له، ولم يورد الدليل على علمه بالتزوير، فلم يستظهر عناصر هذا الاشتراك وطريقته ولم يبين الأدلة على ذلك بياناً يوضحها ويكشف عن قيامها - وذلك من واقع الدعوى وظروفها - فإنه يكون قاصراً في البيان بما يعيبه ويبطله، ولا يجزئ في ذلك مجرد ضبط الورقة المزورة أو التمسك بها أو وجود مصلحة للمتهم في تزويرها، فلا يكفي ذلك بمجرده في ثبوت إسهامه في تزويرها كفاعل أو شريك أو علمه بالتزوير، ما لم تقم أدلة على أنه هو الذي أجرى التزوير بنفسه أو بواسطة غيره، ما دام أنه ينكر ارتكاب ذلك وخلت الأوراق من تقرير فني يفيد نسبة الأمر إليه.
لما كان ذلك - وكان من المقرر أن الأحكام يجب أن تبنى على حجج قطعية الثبوت تفيد الجزم واليقين - من الواقع الذي يثبته الدليل المعتبر - ولا تؤسس على الظن والاحتمال من الفروض والاعتبارات المجردة ، وكان ما ساقه الحكم في التدليل على الاتهام المسند إلى الطاعن قد أقيم على الظن والفروض والاعتبارات المجردة، ولا يغني في هذا الصدد ما تساند إليه الحكم من تحريات المباحث وأقوال مجربها لما هو مقرر من أن الأحكام يجب أن تبنى على الأدلة التي يقتنع بها القاضي بإدانة المتهم أو ببراءته عن عقيدة يحصلها هو مما يجريه من التحقيق مستقلاً في تحصيل هذه العقيدة بنفسه لا يشاركه فيها غيره، ولا يصح في القانون أن يدخل في تكوين عقيدته بصحة الواقعة التي أقام قضاءه عليها أو بعدم صحتها حكماً لسواه.
النقض تضع ضوابط الإدانة في قضايا التزوير
وتضيف "المحكمة": وأنه وإن كان الأصل أن للمحكمة أن تعول في تكوين عقيدتها على التحريات باعتبارها معززة لما ساقته من أدلة، طالما أنها كانت مطروحة على بساط البحث إلا أنها لا تصلح وحدها لأن تكون قرينة معينة أو دليلاً أساسياً على ثبوت التهمة، طالما أن مجريها لم يبين للمحكمة مصدر تحرياته - كحال هذه الدعوى - المعرفة ما إذا كان من شأنها أن تؤدي إلى صحة ما انتهى إليه من أن الطاعن هو مرتكب الجريمة، فإنها بهذه المثابة لا تعدو أن تكون مجرد رأي لصاحبها تخضع لاحتمالات الصحة والبطلان والصدق والكذب إلى أن يعرف مصدره ويتحدد كنهه ويتحقق القاضي منه بنفسه حتى يستطيع أن يبسط رقابته على الدليل ويقدر قيمته من حيث صحته أو فساده وإنتاجه في الدعوى أو عدم إنتاجه، وإذ كانت المحكمة قد جعلت أساس اقتناعها رأي محرر محضر التحريات فإن حكمها يكون قد بني على عقيدة حصلها الضابط من تحريه لا على عقيدة استقلت المحكمة بتحصيلها بنفسها.
لما كان ما تقدم - وكان الحكم في مقام بيان واقعة الدعوى ومؤدى أدلة الإدانة لا ينتج أي دليل أو قرينة على ارتكاب الطاعن للجرائم المسندة إليه، فإن الحكم يكون قد تعيب بالقصور في التسبيب والفساد في الاستدلال بما يبطله، ولا يعصم الحكم من هذا البطلان أن يكون قد عوّل في الإدانة على أقوال شهود الإثبات الأول والثاني والثالث والرابع والخامس وما ثبت من تقرير مصلحة الطب الشرعي قسم أبحاث التزييف والتزوير إذ أن ما حصله الحكم منها ليس فيه ثمة ما يشير إلى مقارفة الطاعن أياً من الوقائع أو الأفعال المثبتة لجريمة الاشتراك في تزوير المستندات واستعمالها التي أدائه الحكم عنها، أو علمه بتزويرها، ومن ثم فإن استناد الحكم إليها لا يغير من حقيقة كونه اعتمد بصفة أساسية على التحريات وحدها، وهي لا تصلح دليلاً منفرداً في هذا المجال.
وتابعت: وإذ جاءت الأوراق - وعلى ما أفصحت عنه مدونات الحكم المطعون فيه والمفردات المضمومة - خلواً من أي دليل يمكن التعويل عليه في إدانة الطاعن، فإنه يتعين نقض الحكم المطعون فيه ، وبراءة الطاعن مما أسند إليه عملاً بالفقرة الأولى من المادة 39 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959، والمادة 304/1 من قانون الإجراءات الجنائية، مع مصادرة المحررات المزورة المضبوطة عملاً بنص المادة 30 من قانون العقوبات.
فلهذه الأسباب:
حكمت المحكمة: بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه وببراءة الطاعن مما أسند إليه ومصادرة المحررات المزورة.