3 مقرات و5 أماكن شهدت على مسيرة صاحبة الجلالة من الارتحال إلى الإقامة الدائمة
تشهد اليوم التجديد النصفى لمجلسها على مقعد النقيب و6 من الأعضاء.. ونحتفى بها بعيدا عن التنافس والصراعات الانتخابية لأنها تستحق دوما أن تكون موضع احتفاء يُختلف فيها، وهى تقبل الاختلاف؛ إنما لا يُختلَف عليها أبدا.
ربما تُمثّل مجرّد مهنة لبعض أبنائها، تُلاحقها الإشادة والانتقاد أينما سارت، وقد يكتفى القارئ بالانتفاع منها دون انشغال بحاضرها وتاريخها؛ لكنها تظل أكثر من صنعة يتكسّب منها العاملون فيها، أو خدمة يتحصّل عليها المنتفعون بها. الصحافة جزء من روح مصر، من هويّتها الضاربة فى جذور الأرض، وتحضّرها الراسخ فى النفوس. إبداع وإمتاع وأمانة تجاه نفسها أوّلا؛ ثم الآخرين جميعًا على قدم المساواة: العدو قبل الحبيب، والبعيد قبل القريب، والعقل والمنطق والضمير فى البدء والمنتهى.
فى الصحافة شىء من رائحة النبوّة؛ من أوّل إنسان صرخ عاليًا ليُحذّر جاره من حيوان مفترس. فيها رساليّة مُضمَرة؛ ولو أنكرها المُخاطبون بها أو تجاهلها العاملون عليها، وإذ هى كامنة فى الروح البشرية القلقة بالفطرة، المتطلعة للمعرفة بنهم لا ينقطع؛ فإنها مُلازمة لوجود الإنسان على الأرض، سبّاقة على كل تنظيم وضبط. وحتى فى شكلها النظامىّ كانت سابقة أيضًا، إذ عرفتها مصر بصيغة منضبطة واحترافية قبل نحو قرنين تقريبًا، وجاء تنظيمها المهنى متأخرا ما يزيد على قرن؛ إنما صارت النقابة من وقت نشأتها عنوانًا على المهنة، وتلخيصًا وافيًا لها، وجزءًا حيًّا من ذاكرة الصنعة والصنّاع والبلد بكامله.
تشهد النقابة اليوم انتخابات التجديد النصفى لمجلسها، يتنافس 8 زملاء على مقعد النقيب، و43 آخرون على ستّة مقاعد للأعضاء، وهنا لسنا مَعنيِّين بالسباق نفسه، مع تقديرنا للجميع من دون استثناء، وترقبنا لانعقاد الجمعية العمومية وفاءً بالتزامنا كأعضاء فيها، ما يعنينا أن نحتفى بصاحبة الجلالة وبلاطها الفسيح؛ أنها صاحبة العُرس أصلاً، والجميع يتبارون لخدمتها، بغضّ النظر عن أيّة شعارات قد يُلوّنها البعض، أو مُزايدات قد يُفرط فيها آخرون.
تاريخ الصحافة أبعد من النقابة، وتاريخ النقابة أعظم من أى عضو فيها؛ لأنه مشغول بالجهد والعرق والحبر السيّال من مجموع أعضائها. هُنا نحتفى بالمسيرة أكثر من كونه احتفاء بالسائرين، بالروح لا المادة، وبالقيمة الباقية قبل كل سباق وبعده، وإلى أن تُجدّد الجمعية العمومية دمائها وصحائف أعضائها مرّة بعد مرة، ونلحق بسابقينا ولا ينقطع المدد من وافدين جُدد.
نتلمّس جانبًا من سيرة الصنعة الجليلة. صاحبة الجلالة التى اكتسبت جلالها من وقوفها بتواضع أمام الكلمة، وأضافت لكلٍّ منتمٍ إليها أضعاف ما أضافه لها، وأسبغت فضلها على المُتبتّلين فى حضرتها، والمُتطاوسين بها؛ طالما أثبتوا الموهبة والجدارة، وحازوا منها القبول والاحترام، أمومة عادلة للغاية، تُحبُّ الشقىَّ والمُطيع من أبنائها؛ المهم ألا يكون عالةً عليها أو قافزًا على جُدرانها دون استحقاق.
نستعيد هنا حكاية النقابة، تاريخها، ظروف النشأة والتأسيس، والطريق إلى صرحها العملاق على منعطف عبد الخالق ثروت، وفى مفترق بين دار القضاء العالى ونقابة المحامين؛ كأنها ترسم بالمكان موقعها الحقيقى من المكانة، وسيطًا من الدفاع عن الناس إلى منصّة العدالة التى لا تميل ولا ترفع غلالة التجرُّد عن عينيها، ترى كل شىء؛ لكنها لا ترى الأيديولوجيا والمصالح الشخصية والحسابات الضيقة عندما تضع سنَّ القلم على الورق؛ أو هكذا يُفترَض، ويجتهد غالبها الأعمّ، هنا ذاكرة وذكريات، وحكايات ومواقف، ومعارك خيضت تحت عناوين عِدّة؛ كلها أخلصت للمهنة والله والوطن. هنا سجّل آبائنا الذين علّمونا السحر ودافعوا عن البيت الكبر، وجانب من سيرة رموز بزغوا على طريق العمل النقابى؛ فاستحقوا أن يكونوا موضع استذكار واحتفاء فى كل وقفة مهنية ونقابية جادة
فصول من سيرة صاحبة الجلالة، تتزامن مع انتخابات التجديد النصفى لمجلس النقابة؛ لكنها لا تُفرّق بين مرشّح وآخر، ولا تختنق بغبار المعارك وتجاوزاتها؛ لهذا ذهبت تفتّش فى الماضى المضىء، على أمل أن تسفر المعمعة عن زملاء يضطلعون بالمسؤولية بحقّها، ويحرسون المهنة وينافحون عن هيبة البيت، قل إنه هروب إلى الوراء إن شئت؛ إنما فى الواقع نعدّه قفزةً بعيدة جدًّا إلى الأمام، على الأقل من جهة تذكير الزملاء الأعزاء مِمَّن سيحوذون ثقة الجمعية العمومية، بما يجب أن يكونوا عليه، وما أنجزه الآباء الكبار، ويفرض علينا جميعًا الدأب والإخلاص، كما يفرض التواضع أيضًا.
ثمانية عقود أو يزيد، قطعتها نقابة الصحفيين مع قرابة 30 ألف يوم من العمل، وعبر ارتحالات لم تتوقف بين الأماكن، بدأت حلما فى خيال الآباء، تجسّد فى شقّة داخل أشهر عمارات القاهرة؛ لكنها ظلّت تحلم بامتلاك مستقرّ يليق بالمهنة العريقة، ويصلح لاحتواء صاحبة الجلالة وسُكناها.
حين نخطو اليوم إلى مبنى نقابة الصحفيين فى 4 شارع عبد الخالق ثروت بوسط القاهرة، قد لا ندرك أن هذا الصرح الذى صار رمزا للحريات الصحفية، لم يأت من فراغ. بل هو ثمرة نضال طويل، وقطعة من حكاية وطن، كتبتها أقلام الصحفيين وشهدت عليها جدران تنقلت من مكان إلى آخر حتى استقرت فى هذا العنوان البهى.
بيت الحلم.. المقر الأول
فى عام 1941، وبعد سنوات من السعى، صدر القانون رقم 10 بإنشاء نقابة الصحفيين، وقتها لم يكن هناك مبنى ولا تمويل ولا بنية تحتية، فقط رغبة نقية فى تنظيم المهنة والدفاع عن أصحابها، ووسط هذه البدايات المتواضعة، تنازل محمود أبو الفتح، أول نقيب للصحفيين، عن شقته الخاصة لتكون أول مقر للنقابة.
فى هذه الشقة الواقعة فى عمارة الإيموبيليا الشهيرة، لم تكن هناك مساحات فاخرة ولا قاعات اجتماعات واسعة، لكنها كانت تحمل حرارة البداية، وجلس فيها المؤسسون يخططون للمستقبل، ويؤسسون لجمعية عمومية تُنتخب لأول مرة فى تاريخ الصحافة المصرية.
عمومية باب الخلق
فى 5 ديسمبر من نفس العام، انعقدت أول جمعية عمومية بنقابة الصحفيين بمحكمة مصر فى باب الخلق، بحضور 110 أعضاء من أصل 120، وقد كان ذلك الحدث استثنائيا، فهذه هى المرة الأولى التى يشعر فيها الصحفيون أن صوتهم له وزن، وأنهم يختارون مجلسا يمثلهم، يضم أسماء بحجم إبراهيم عبد القادر المازنى، وجبرائيل تقلا، ومصطفى أمين، وأنطون الجميل.
أول إشارة لبيت العز
عندما جاءت لحظة عقد الجمعية العمومية التالية فى عام 1942، لم تعد الشقة تكفى، فاتجه المجلس إلى قاعة نقابة المحامين، وهناك، فى لحظة تأمل بين جلسة وأخرى، لفت نظر الصحفيين قطعة أرض مجاورة عليها خيام للجرحى البريطانيين المصابين فى الحرب العالمية الثانية، وراود الحلم مجلس النقابة: لماذا لا تكون هذه هى أرض مقر النقابة الدائم؟
توجه محمود أبو الفتح فى اليوم التالى إلى الجهات الرسمية يطلب تخصيصها للنقابة، لكنه فوجئ بأنها تحت سيطرة الجيش البريطانى، ورغم عرض الدولة عليهم لاحقا أرضا بديلة فى شارع رمسيس مقابل إزالة سوق الخضر والفاكهة، رفض الصحفيون تمسكًا بحلم ولد فى قلوبهم وسط الحروب.
الارتحال إلى قصر النيل
وفى عام 1944 جاءت فرصة حقيقية من وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، الذى أمر بالاستيلاء على مبنى من طابق واحد بشارع قصر النيل وتخصيصه لنقابة الصحفيين.
لم يكن القصر، ولم يكن حلم عبدالخالق ثروت، لكنه كان «مقرا حقيقيا» لأول مرة، احتضن الاجتماعات والندوات، وتحول إلى ناد ثقافى وصالون فكرى، وتم تزويده بمكتبة كبيرة تحتوى على أكثر من 4000 كتاب، ومجموعة قيمة من الصحف والمجلات المحلية والعالمية، وفى هذا المبنى، كُتبت فصول من نضال الصحفيين، وانطلقت منه بيانات هزت الشارع المصرى.
ثلاثة أجيال من الأمل
رغم كل هذا، لم تنس الجماعة الصحفية الأرض المجاورة لنقابة المحامين، وظلت الفكرة تعيش فى أوراق المجالس المتعاقبة ومحاضر الاجتماعات، وفى أوائل التسعينيات، كان المناخ العام يشهد انفتاحا نسبيا، ورغبة فى دعم النقابات، فاغتنم إبراهيم نافع الفرصة.
عام 1995، حصل مجلس النقابة على دعم مبدئى من الدولة بقيمة 10 ملايين جنيه لبناء مقر جديد، وبعد عامين فقط، فى «يوم الصحفى» 10 يونيو 1997، وُضع حجر الأساس وسط احتفال كبير، ثم تولى النقيب مكرم محمد أحمد توقيع عقد البناء مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة فى 1998، وافتُتح المبنى الجديد رسميا فى يوليو 2002، وكان أكثر من مجرد مبنى، وأقرب إلى إعلان الانتصار لحلم يدخل عقده السابع.