ينصرف مفهوم الضبط القضائي إلى مجموع الإجراءات التي يباشرها مأمورو الضبط القضائي حين تقع الجريمة بهدف إثباتها أو الكشف عنها والبحث عن مرتكبيها وجمع أدلتها وإحالتهم إلى المحكمة المختصة، وتبدأ وظيفة الضبط القضائي حين تنتهي وظيفة الضبط الإداري فلا يتدخل مأمورو الضبط القضائي ولا يباشرون نشاطاً إلا عندما يفشل أعضاء الضبط الإداري في أداء مهامهم، بحيث يقع إخلال فعلي بالنظام العام يصل إلى درجة الجريمة، حينئذ تبدأ إجراءات وسلطات الضبط القضائي في الحدود المسموح بها قانونا.
وهناك من الجرائم التي يتطلب الكشف عنها تدخلاً من مأموري الضبط القضائي يعد بمثابة تحريضا على ارتكاب الجريمة نظرا لما يتميز البحث عن مرتكبيها بالدقة والصعوبة، إذ يكون نشاطهم متسمًا بالسرية، حيث يتطلب الأمر استدراج المشتبه فيهم حتى يكشفوا عن نشاطهم، ويمكن بالتالي إثبات جرمهم متلبسين أو بجمع أدلة على درجة من القوة والإحكام تكفي لإدانتهم.
هل تظاهر رجل الضبط القضائي للمتهم بشراء مخدر أو نقد أجنبي وضبطه إجراء مشروع؟
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية تتمثل في الإجابة على السؤال.. هل تظاهر رجل الضبط القضائي للمتهم بشراء مخدر أو نقد أجنبي وضبطه عند تقديمه له إجراء مشروع؟ حيث يحدث عملا أن يعلم رجل الضبط القضائي من خلال مصادرة السرية أو أحد المرشدين أن المتهم يتاجر بالمخدر أو يتعامل بالنقد الأجنبي خارج السوق المصرفية أو يبيع سلعة بأزيد من ثمنها المحدد قانونا، فينتقل رفقة المرشد أو المصدر السري إلى حيث تواجد المتهم متنكرا في هيئة عميل أو راغب شراء، أو يبعث المرشد للمتهم بعد أن يعطي له نقودا، ويظل يراقب عن كثب مصطنعا محاولة شرائية مع المتهم حتى أن أخرج المتهم المخدر أو النقد أو السلعة بعد أخذ الثمن انقض رجل الضبط القضائي عليه بانتزاعها منه بدعوى ضبط جريمة متلبس بها – بحسب أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض ياسر الأمير فاروق.
في البداية - يثور التساؤل عندئذ عن مشروعية التلبس الذي تكشف أو بالأحرى مدى مشروعية الإجراءات التي اتخذها رجل الضبط القضائي وتكشف عنها التلبس، ومن ثم صحة إجراءات القبض والضبط والتفتيش، حيث يكاد يجرى موقف الفقه من التحريض الصادر من مأمور الضبط القضائي على استنكاره الشديد لهذا النوع من التحريض فهم ينظرون إليه على أنه وسيلة تتنافى مع القيم الخلقية، لأنه ليس من وظيفة الدولة أن تحرض على الجرائم وإنما تقتصر وظيفتها على منع وقوعها والبحث عنها ومعاقبة المساهمين فيها – وفقا لـ"فاروق".
تباينت آراء الفقهاء حول مشروعيته من عدمه
فلا خلاف حول بطلان هذه الوسيلة، وذلك حماية للحريات الفردية وصيانة للضمانات التي منحها القانون من أجل إقامة محاكمة عادلة، كذلك أعلن الفقهاء الفرنسيون أن هذه الوسيلة لم تعد تتلاءم مع العصر الحديث، ومن ثم يجب أن يكف مأمورو الضبط القضائي عن اللجوء إليها خاصة أن مشاعر العدالة تتأذى من قيام رجال الشرطة أو غيرهم بالتشجيع على ارتكاب الجريمة ومخالفة القانون مع بقائهم بعيدين وبمنجى من كل عقاب أو مسؤولية جنائية، وفي الفقه خلاف حول مشروعية التلبس المنكشف من جراء سلوك مأمور الضبط القضائي المار ذكره، فذهب رأي إلي عدم المشروعية، إذ لا يجوز للدولة أن تطالب بحق كالحق في العقاب متى كان هذا الحق مبنيا على سلوك شائن من رجالها، كما أن مهمة رجال الشرطة منع الجرائم لا التحريض عليها لاصطياد الناس كالفرشات – الكلام لـ"فاروق".
وذهب رأى آخر إلى مشروعية سلوك مأمور الضبط القضائي، لأن التخفي وانتحال الصفات من صميم عمله المتمثل في البحث عن الجرائم ومرتكبيها، أما ما يجمل وما لا يجمل أن يسلكه رجل الضبط من سلوك أو أن ما اتخذه سلوك شائن فغير قادح، لأن الإجرام أشد أثماً وقبحاً، ومن الفقهاء من يتوسط إذ يذهب إلي التفرقة بين نوعين من الجرائم النوع الأول؛ الجرائم تتحقق بمجرد حيازة شيء محظور كالمخدر والنوع الثاني؛ الجرائم التي لا تقع بمجرد الحيازة وإنما بسلوك البيع أو التعامل كبيع سلعة بأزيد من ثمنها أو التعامل بالنقد مع إضفاء المشروعية على سلوك مأمور الضبط القضائي في النوع الأول من الجرائم دون الثاني – هكذا يقول أستاذ القانون الجنائى.
رأى محكمة النقض في الأزمة
وفى هذا الشأن سبق لمحكمة النقض التصدي لهذا الأمر في العديد من الأحكام أبرزها الطعن المقيد برقم 1902 لسنة 62 قضائية، الصادر بجلسة 2 يناير 1994، حيث إن محكمة النقض فقضائها مستقر على مشروعية التلبس وصحة الإجراءات بسند أن كل إجراء يقوم به مأمور الضبط القضائي في سبيل الكشف عن الجرائم ومرتكبيها يعتبر صحيحا منتجا لأثره ما دام أن رجل الضبط القضائي لم يتدخل بفعله في خلق الجريمة أو التحريض عليها، وبقيت إرادة الجاني حرة ولا تثريب على مأموري الضبط في أن يصطنع في تلك الحدود من الوسائل البارعة ما يسلس لمقصوده في الكشف عن الجريمة ولا يتصادم مع أخلاق الجماعة.
طعن أخر لمحكمة النقض
وفى طعن أخر لمحكمة النقض مُقيد تحت رقم 3679 لسنة 56 قضائية، الصادر بجلسة 2 نوفمبر 1986، والذى جاء في حيثياته: لما كان من مهمة مأمور الضبط القضائي بمقتضى المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية الكشف عن الجرائم والتوصل إلى معاقبة مرتكبيها، وكل إجراء يقوم به في هذا السبيل يعتبر صحيحاً منتجاً لأثره ما دام لم يتدخل بفعله في خلق الجريمة أو التحريض على مقارفتها، وطالما بقيت إرادة الجاني حرة غير معدومة، ولا تثريب على مأموري الضبط في أن يصطنع في تلك الحدود من الوسائل البارعة ما يسلس لمقصوده في الكشف عن الجريمة ولا يتصادم مع أخلاق الجماعة، ولما كان ما سطره الحكم المطعون فيه ليس فيه اي دور لرجل الضبط القضائي ما يجعل فعله إجراء مشروعاً يصح أخذ المتهم بنتيجته متى اطمأنت المحكمة إلى حصوله، لأن تظاهر مأمور الضبط برغبته في شراء نقد أجنبي من المطعون ضده ليس فيه خلق للجريمة أو تحريض عليها ومن ثم فإن الحكم المطعون فيه إذ أبطل الدليل المستمد مما كشف عنه المطعون ضده طواعية من تعامله في النقد الأجنبي على خلاف الشروط والأوضاع المقررة قانوناً يكون على غير سند من الواقع أو أساس من القانون مما يعيبه.
طعن ثالث لمحكمة النقض
وقضت أيضا بأن مسايرة مأمور الضبط القضائي للجاني بقصد ضبط الجريمة لا يعد اختلاقاً لها وغير مخالف للقانون وذلك في واقعة كانت تحريات ضابط مكافحة المخدرات قد دلت على أن المتهم والذي يعمل صيدلي، ويمتلك إحدى الصيدليات بمدينة نصر يقوم بالاتجار في العقاقير الطبية المخدرة، وقام بالاستعانة بأحد المرشدين لإجراء محاولة شرائية نجم عنها بيع المتهم له شريط لعقار الترامادول المدرج بالجدول الأول دون تذكرة طبية، وعلى إثر ذلك قام بالدخول إلى الصيدلية وفتيشها بمعرفة مفتش صيدليات بمديرية الشئون الصحية، فعثر بداخلها على كمية من العقاقير الطبية مجهولة المصدر وغير مجازة من وزارة الصحة وأخرى مدرجة بالجدول الأول من قانون المخدرات وذلك بقصد الاتجار، مما يدل على توافر حالة التلبس بجريمة حيازة عقار الترامادول المخدر بقصد الاتجار وتكون الاجراءات التي اتخذها رجل الضبط القضائي لأن المتهم قد أوجد نفسه طواعية في أظهر حالة من حالات التلبس ببيعه عقار الترامادول المخدر للمرشد دون تذكرة طبية بالمخالفة لنص المواد 14، 19، 24 من قانون المخدرات رقم 182 لسنة 1960 قضائية، الصادر بجلسة 14 أكتوبر 2014.
صحة الإجراءات والتلبس
وقضت أيضا بصحة الإجراءات والتلبس المنكشف في واقعة علم فيها رجل الضبط القضائي من أحد مصادره أن المتهم يتاجر في المواد المخدرة، ولما أكدت تحرياته صحة المعلومات توجه الضابط من المصدر واقرضه نقود لإتمام محاولة شرائية للمخدر وبعثه للمتهم وظل يراقب عن كثب وحين إعطاء المصدر النقود للمتهم، وقيام الأخير بإخراج كيس سلوفانية بها أوراق صغيرة ملفوفة، وقبل تسليمه إحداها للمصدر أسرع الضابط إلى ضبط المتهم وانتزع الكيس منه والذي تبين أن بداخله العديد من قطع المخدرات الملفوفة وحين دفع المتهم ببطلان القبض والتفتيش، لأن الجريمة تحريضية التفت محكمة الجنايات عنه وعند الطعن بالنقض رأت محكمة النقض أنه دفع ظاهر الفساد لا تثريب علي محكمة الجنايات أن التفت عنه ايرادا وردا، طبقا للطعن رقم 11516 لسنة 62 قضائية، الصادر بجلسة 10 مايو 1994.
وأيضا سوغت الإجراءات والتلبس في واقعة كان رجل الضبط القضائي قد كلف مرشد سري بالتواصل مع أحد تجار المخدرات للإيقاع به من خلال ضبطه متلبسا ببيع المخدر ورسم له خطة بالتواصل مع المتهم مع ابلاغه بإتفاقه معه علي موعد تسليم المخدر فأبلغه بأن المتهم قد أحضر المخدر وحدد له موعداً ومكاناً لمقابلته فإتجه الضابط لضبط المتهم في المكان والزمان اللذين أبلغه بهما مرشده السرى وحال تسليم المتهم المخدر قام بضبطه، كما ورد في الطعن رقم 10374 لسنة 62 قضائية، الصادر بجلسة 21 أبريل 1994، كما سوغت أيضا محكمة النقض الإجراءات وانتهت الي مشروعيتها وصحه التلبس المنكشف عنها في واقعة كان رجل الضبط القضائي قد تنكر في صوره طالب شراء عمله وانتقل حيث تواجد المتهميين وتقابل معهما بغيه الشراء والسؤال عن السعر فسأله الأول عما إذا كان يرغب في شراء عمله من عدمه، فوافقه، ثم أتى المتهم الثانى قام بعرضه على الضابط لقاء سعر إتفق عليه ،فقام بضبطهما و الجريمة متلبس بها، كما ورد في الطعن رقم 19637 لسنة 59 قضائية، الصادر بجلسة 22 مايو 1991.
شرط النقض لصحة تدخل رجل الضبط القضائي لكشف الجريمة
وفى الختام يقول "فاروق": هذا القضاء "محل نظر" إذ دار حول المشكلة بدلا من مواجتها، فالمشكلة ليست في مساهمة رجل الضبط القضائي في الجريمة خلقا وتحريضا كما خال للنقض، وإنما في مشروعية سلوك رجل الضبط القضائي في كشفها مع التسليم بوقوعها، بل أن مذهب النقض لا يخلوا من تناقض وتكلف، فمحكمة النقض تشترط لصح تدخل رجل الضبط القضائي لكشف الجريمة، ومن ثم مشروعية التلبس ألا يتضمن مسلكه تحريضا عليها وأن تظل إرادة المتهم حرة، وهذا يقتض أن تكون الجريمة قد وقعت فعلا واقتصر دور رجل الضبط القضائي علي إماطة اللثام عنها بالتحايل لضبط الجناة بأدلتها بمعني أن يكون دور رجل الضبط لاحقا للجريمة بكشفها لا معاصرا ومصاحبا لارتكابها ودون أدنى تأثير على إرادة المتهم.
ويؤكد: وفي الأحكام محل التعليق كان نشاط رجل الضبط القضائي معاصرا لبيع النقد والمخدر بحيث لولا سلوكه لما حدث تعامل في النقد أو اتجار في المخدر، ولا تختلف الصورة كثيرا في بيع المخدر إذ على الرغم من تجريم مجرد حيازة المخدر إلا أنه لولا تدخل رجل الضبط القضائي بتزين بيع المخدر للمتهم والإيعاز له لما تكشفت تلك الحيازة والأحراز، والمشكل كما ذكرنا ليس في وقوع الجريمة، وإنما في مشروعية كشفها، كما أن هناك تأثير على إرادة المتهم في الأحكام محل التعليق فهى ليس حرة مائة في المائة كما خال للنقض بل معيبة معنويا بالتأثير عليها وتوجهها إلى الإجرام بغرض ضبط صاحبها متلبسا، وبالتالي لا يعد سائغا أن تقرر محكمة النقض أن سلوك رجل الضبط القضائي لا غبار عليه، لأن إرادته المتهم حرة، والخلاصة أن ما ذهبت إليه محكمة النقض من تصويب الإجراءات لا يتلاءم مع المبدأ التي لا تفتاء أن تردده وهو "ما لم يتدخل رجل الضبط القضائي بالتحريض على ارتكاب الجريمة وطالما بقيت إرادة المتهم حرة".