منذ صعوده فى نوفمبر العام الماضى، أى منذ ما يقرب من عام، تبنى الرئيس الأمريكى نهجا تصعيديا أمام الجمهورية الإسلامية فى إيران، وتوعدها خلال حملته الانتخابية بإلغاء الاتفاقية النووية المبرمة مع القوى الست فى عام 2015، وتمزيقها ووصفها بـ"أسوأ" اتفاق تبرمه الولايات المتحدة فى تاريخها، لكن آداء الرئيس الجمهورى فى عامه الأول من توليه الرئاسة جاء متناقضا ومرتبكا أحيانا فيما يتعلق بحسم الملف النووى مع إيران.
ويرصد التقرير اخفاقات الرئيس الأمريكى وأبرز الأخطاء التى وقع فيها أمام إيران، وتتمثل تلك المآخذ فى النقاط التالية..
1- ترامب وعد بالغاء الاتفاق النووى وتراجع ودعا لإعادة التفاوض
أول إخفاق ظهر فى أداء الرئيس الأمريكى فى الأشهر الأولى فى البيت الأبيض، كان تراجعه عن وعيده المتكرر بتمزيق الاتفاق النووى، لذا نراه فى 18 يوليو الماضى، قدم بديلين، الأول: هو الإبقاء على الاتفاق مع إيران، فى المقابل بفرض عقوبات، والثانى: دعوة طهران مجددا للجلوس على طاولة الحوار لإعادة التفاوض على أجزاء الاتفاق لتعديل بنوده، ورغم العرض الأخير عين مسئولين فى إدارته يتبنون مواقف متشددة بشأن إيران، ما يعنى أنه لم يترك بابا مفتوحا يمكّن طهران من العودة مرة أخرى إلى المفاوضات، غير أن جنوح الرئيس الأمريكى إلى خيار إعادة التفاوض كان دليل على أنه لا يرفض بشكل كامل الاتفاق، وكان أيضا مؤشرا كبيرا على تراجعه عن أحد وعوده الانتخابية، إضافة إلى أنه ظهر كرئيس لا يمتلك القدرة فى الانسحاب من اتفاقية دولية وقع عليها 6 أطراف أخرى، وأن إدارته بدأت تبحث عن بدائل الانسحاب، فتارة يتحدث عن فرض عقوبات صارمة، وآخرى يسرب الاعلام الأمريكى ما يدور خلف الكواليس من وجود نية للتفاوض مجددا مع طهران.
2- ترامب فشل فى حشد دولى ضد طهران من منصة الأمم المتحدة
فشل ترامب أيضا فى حشد عالمى ضد الاتفاق النووى الإيرانى من منصة الأمم المتحدة، فالرئيس الأمريكى الذى لم ينجح حتى فى توحيد الأراء المتباينة داخل إدارته تجاه إيران، فى ليلة 19 سبتمبر الماضى وفى القاعة الضخمة للأمم المتحدة وأمام العالم كله بدا وكأنه يرغب فى توحيد بلدان العالم فى الأمم المتحدة ضد إيران. واختص هذا البلد بجزء كبير فى خطابه واعتبر أن دول العالم يجب أن تقف إلى جانب موقف الولايات المتَّحدة.
لكن استخدام ترامب منصة الأمم المتحدة فى لحشد العالم ضد إيران جاءت بنتيجة عكسية، فاصطفت الدول الأوروبية الشركاء الأصليين للاتفاقية النووية (روسيا، الصين، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) بالاضافة إلى الاتحاد الأوروبى خلف إيران فى معركة النووى، رغم مخاوفهم من برنامجها للصواريخ الباليستية، واكتسبت طهران حلفاء أوروبيين لهم ثقلهم فى المحافل الدولية وتأييد أوروبى واسع للاتفاقية، وازدادت تمسكا بالاتفاقية النووية بعدما شعرت انها نجحت فى حشد الشركاء الأوروبيين الذين استغلهم كأوراق ضغط على البيت الأبيض.
3- أخفق فى توحيد الرأى داخل الإدارة الأمريكية ضد طهران
تباين الآراء فى التعاطى مع الاتفاقية، كان السمة الأبرز داخل الإدارة الأمريكية، ففى الوقت الذى أكد فيه ترامب عدم معارضته نشاط ألمانيا وفرنسا فى الاقتصاد الإيرانى، طالب وزير خارجيته ريكس تيلرسون الشركات الأوروبية بعدم الدخول فى صفقات مع الحرس الثورى. وفى واقعة آخرى توضح مدى ازدواجية الإدارة الأمريكية قدم وزير الدفاع الأمريكى جيم ماتيس دعما قويا للاتفاق فى 3 أكتوبر الماضى أى قبل 10 أيام من تقديم الرئيس الأمريكى استراتيجيته، حيث أعلن ماتيس أن الاتفاق النووى الإيرانى يصب فى صالح الولايات المتحدة.
4- ملياردير نيويورك أخطأ فى حسابات الحرس الثورى
رغم ميوله للإدارة وعقلية رجل الأعمال التى يتمتع بها، إلا أن الحسابات السياسية أربكت العقل الاقتصادى الذى يتمتع به ملياردير نيويورك، فرفض ترامب للتوقيع على الاتفاق النووى، كان هدية من السماء لمؤسسة الحرس الثورى الإيرانى التى أحلت استثماراته خلال الـ 10 سنوات الماضية محل الشركات الأجنبية التى تركت طهران جراء العقوبات (على سبيل المثال هجرت شركات النفط الغربية مشروعات الطاقة فى إيران عام 2012 تولى الحرس الثورى أمرها) ومُنحت العقود لشركاته، وتوسعت أنشطة هذه المؤسسة العسكرية فى المشاريع التجارية وامتلكت إمبراطورية اقتصادية ضخمة.
لكن بعد توقيع الاتفاقية النووية فى 2015 تغير الحال ورفعت العقوبات وسمح للشركات الأجنبية والمستثمرين العودة لإيران، وتوقيع العقود التجارية المختلفة، وشجع الرئيس روحانى المحسوب على التيار الاصلاحى الشركات الأجنبية على العودة لبلاده، لإبعاد "تجار العقوبات" وهو لقب أطلقه روحانى على هذه المؤسسة فى عام 2014، بسبب استغلالها العقوبات الدولية، لتحقيق انتفاعات كبرى، من خلال تأسيس شركات بأسماء وهمية أو تجنيد شبكات تنشط فى الالتفاف على العقوبات، وتمكن طهران من تصدير بضائعها واستيراد احتياجاتها.
لكن استراتيجية الرئيس الأمريكى فى حال تقويض الاتفاق النووى وفرض عقوبات جديدة على إيران، قد يؤدى ذلك إلى عودة طهران إلى سابق عهدها من تغلغل الحرس الثورى فى المشاريع التجارية، وهروب الشركات الأجنبية مجددا، وفسخ العقود والصفقات الكبرى التى عقدتها حكومة روحانى مع شركات عالمية أبرزها صفقة ايرباص وبوينج ومجموعة توتال الفرنسية للاستثمار فى حقل بارس الجنوبى وسيمنس الألمانية، وفى تقرير نشرته رويترز قال مسئول إيرانى لم تنشر اسمه "نحن نريد بقاء المستثمرين الأجانب. لكن إذا رحلوا بسبب الضغط الأمريكى فيمكن للحرس أن يحل بكل سهولة محلهم لا يوجد بديل أفضل من ذلك".
ليس الحرس الثورى فحسب الذى أعطاه ترامب ما يريد، بل التيار المتشدد الذى رفض الاتفاق برمته منذ اليوم الأول سيكون المستفيد من التوتر مع واشنطن وسيستغله فى صراعه مع الإصلاحيين، وتنفيذ ترامب وعده يعنى تعزيز هيمنة هذا المعسكر فى أركان السلطة، والقضاء على مشروع "الانفتاح" على العالم الذى يتبناه التيار الاصلاحى، ويتوقع أيضا استخدام هذا التيار كارت النووى فى الانتخابات الرئاسية المقبلة فى 2021 كآداة لتشويه المنافس الإصلاحى المحتمل، باللعب على وتر أن الاتفاق لم يحقق إنجازا يذكر فى معيشة الفرد.
5- فشل فى استمالة مجلس الأمن فنقل المعركة داخل الولايات المتحدة
نقل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب المواجهة مع إيران إلى أروقة الكونجرس الأمريكى يوم الجمعة 13 أكتوبر الماضى فى خطابه الشهير الذى أعلن فيه استراتيجيته تجاه دولة إيران والاتفاق النووى، بعدما فشل فى نقلها إلى مجلس الأمن فى يناير 2017 عقب تجربة إطلاق صاروخ باليستى متوسط المدى، وحاول وقتها استمالة المجلس المؤلف من 15 دولة ودعا لإجتماع طارئ لبحث الصواريخ، لكن وقت أمامه الدب الروسى فى جلسة يوم 31 يناير 2017، واعتبرت موسكو أن التجربة الصاروخية الإيرانية لا تنتهك قرار 2231 لمجلس الأمن الدولى، ووصفت تحركات الإدارة الأمريكية أمام إيران مسعى إلى "تأجيج الوضع".
6- رفع سقف التوقعات وخرج بإستراتيجيته تفتقر لجديد
قبيل إعلان ترامب استراتيجيته، صعّدت الإدارة الأمريكية تهديدها بشكل غير مسبوق لإيران، وتحدثت تقارير عن اعتزام النواب مشروع قانون لإدراج الحرس الثورى على قوائم المنظمات الإرهابية، وارتفعت سقف التوقعات قبل أيام من خطاب ترامب، وأوحى للجميع بأنه سيعلن الانسحاب من الاتفاقية النووية، لكن خرجت الاستراتيجية تفتقر لجديد، ولإجراءات من شأنها تهديد طهران على المدى القريب، وخلط ترامب بين النووى ودروها الإقليمى، ولم يقدم "دليلا نوويا" يقنع حتى الأوروبيين لاتخاذ جبهته، وكتبت صيحفة "دى فيلت" الألمانية تنتقد السلوك الأمريكى تجاه الاتفاق "ترامب يريد أن يحظى بدعم الأوروبيين في ذلك، لكن يجب عليه أن يقوم بشىء أفضل من الخداع". فى المقابل وقف الأوروبيين إلى جانب طهران يحموا مصالحهم الاقتصادية.