ـ أنامل الصغيرات تنتصر على الجريمة برسومات الحرية.. ناجيات من العنف يرسمن لوحات الأمل بعد التعافى
ـ هيئة الأمم المتحدة للمرأة تطرح رؤيتها عبر "برلمانى" لمواجهة الجريمة الرقمية.. اتفاقية أممية مرتقبة بشأن الجرائم الرقمية
- صرخات صامتة انتهت بالانتحار وأخرى مروعة طىّ الكتمان
- إعلانات الوظائف الشاغرة مجهولة المصدر و"جروبات"البحث عن وظيفة.. والحسابات الوهمية للاستشارات الطبية النسائية ووصفات للتخسيس ونحت الجسم بوابة المجرمين لاصطياد الضحايا
ـ المدير الإقليمى لهيئة الأمم المتحدة للمرأة: النساء والفتيات الأكثر استهدافا من العنف الرقمى بنسب انتشار بين 16 و58% عالميا
ـ فتيات فى براثن محتالى الشبكة العنكبوتية يروين مآسيهن.. إحدى الضحايا: الموت أهون من أن أهلى يعرفوا.. وأخرى: زوجى نشر صورى عبر "أكونتات" مزيفة لابتزازى ماديا وحاولت الانتحار
ـ وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لـ"برلمانى": نكثف برامح التوعية بمخاطر الفضاء الإلكترونى ومبادرات التمكين الرقمى
ـ "القومى للمرأة" و"الطفولة والأمومة" وقانونيون: التعديلات التشريعية ضرورة لمواكبة الجريمة الرقمية
- اليونيسف: قدمنا توصية لوزارة التضامن الاجتماعى بإجراء تعديل على قانون الطفل ليشمل بندا خاصا بالعنف الإلكترونى
ـ خبراء أمن سيبرانى: الذكاء الاصطناعى أحدث نقلة غير مسبوقة فى عالم الجريمة الرقمية وضاعف المخاطر.. ويحذرون من عروض الجوائز والهدايا خاصة فى رمضان والأعياد
ـ الهيئة الوطنية للإعلام: نضع العنف الرقمى ضد المرأة والأطفال في صلب خططنا لتطوير الرسالة الإعلامية
ـ المدير الإقليمى لهيئة الأمم المتحدة للمرأة: مصر اتخذت خطوات مهمة للتصدي للعنف الرقم
ـ وصمة العار المجتمعى وتشويه السمعة.. أسلحة المُعنِفين لاستغلال الضحايا
ـ لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمجلس النواب: دور مهم للأزهر والكنسية فى توعية الأسرة والفتيات
ـ استشارى الصحة النفسية: الضحايا يواجهن اضطرابات حادة تبدأ من الاكتئاب ونوبات الهلع وصولا إلى الانتحار
علَّ بلوغ ابنتى مشارف السادسة عشرة من عمرها جعلنى أُدقق النظر في كل ما يحدق بها من مخاطر.. فتاة اليوم هى امرأة الغد.. ذات يوم أبلغتنى بفرحة غامرة تعكس براءتها "ماما فيه واحدة بتعمل جيل الضوافر بأشكال تحفة وسعر لُقطة مش هتصدقى.. 100 جنيه بس!!".. دُهشتُ لهذا السعر غير المنطقى؛ فالمعروف أن جيل الأظافر فى مصر أسعاره تتدرج من الـ400 جنيه كحد أدنى إلى أكثر من 1000 جنيه.
وبسؤال ابنتى عن تفاصيل عثورها على هذا العرض، أوضحت لى أنها قرأت الإعلان بمحض الصدفة منشورا على منصة التواصل الاجتماعى"فيس بوك"، والسعر المغرى المدعوم بصور لأشكال أظافر برسومات جذابة دفعها لتطلب من صاحبته التفاصيل؛ لترد عليها صاحبة الإعلان برسائل عبر "الماسنجر" بأن السعر حقيقى ومتاح أى "ديزاين" تصميم تطلبه.
الارتياب بالأمر دفعنى للدخول إلى صفحة المحادثات التى جرت بينهما حتى أطمئن؛ فوجدت المحادثة تقول فيها تلك السيدة إنها تعمل بمحافظة الإسكندرية، وتقدم هذه العروض مقابل تصوير الفتيات كـ"موديل"؛ وتلتقط صورًا لهن عقب الانتهاء من جلسة وضع الجيل؛ كدعاية لشغلها.
الصدمة أن السيدة طلبت من ابنتى أن تُرسل لها صورًا شخصية بملابس مختلفة؛ للتأكد من كونها تصلح كموديل أو لا؛ رغم علمها من خلال بيانات حساب ابنتى وصورة البروفايل أنها طفلة؛ مُرتكبة بذلك مخالفات قانونية جسيمة، ناهيك عن نواياها وراء هذه المطالب.. فحينما تأخرت ابنتى فى الرد على الرسالة ألحّت السيدة عليها بعدة رسائل متتالية تسألها عن الصور؛ وهنا بدأتُ أفقد أعصابى؛ فسألتها عن هويتها وعنوانها ولماذا تطلب صوراً من ابنتى، لكنها لم تُجبنى، ثم اختفت تمامًا وحظرت الحساب، ولم أتمكن من الوصول إليها.. بلا شك أنها أدركت من خلال أسلوبى أننى أم الطفلة أو والدها.
تحدثت إلى صديقة لى أحاول فهم ما جرى، وماذا عليَّ أن أفعل؛ فكان ردها: "احمدى ربنا أنه أنقذ ابنتك من فخ بنات كتير بتقع فيه الأيام دى.. التهديد والابتزاز.. خلّى بالك وخلى عينيك عليها لأن الإعلانات دى كترت وبقت مصيدة للبنات.. والبداية بصورة ! ".
أنهيت المكالمة الهاتفية مع صديقتى.. لأبدأ رحلتى فى البحث عن تفاصيل أكثر حول ما يحدث من جرائم فى العالم الرقمى.. خوف الأم ممزوج بشغف الصحفية ضاعف من نهم البحث والتحرى فى عالم الجريمة الرقمية.
من بين ما وجدت.. واقعتا "هايدى شحتة" و"بسنت خالد"، اللتان تعودان لعام 2022؛ لكنها لا تزال تعتصر قلب كل من يقرأها.. فتاتان فى عمر الزهور قصتاهما متشابهتان لكنهما من محافظتين مختلفتين؛ فإحداهما من محافظة الشرقية والأخرى من الغربية، الفتاتان قررتا إنهاء حياتهما وهما فى سن السادسة عشرة والسابعةَ عشرةَ، بعد تعرضهما للتهديد والابتزاز الإلكتروني؛ ثم التشهير بنشر صور لهما، حصل عليها الجناة عن طريق حساباتهما الشخصية على منصة التواصل الاجتماعى "فيسبوك"؛ ثم قاموا بفبركتها لتبدو فى أوضاع فاضحة، وبعد فترة من التهديد تم إرسال الصور لأسرتيهما؛ ثم قاموا بنشرها على منصات التواصل الاجتماعى، فلم تستطع الفتاتان تحمل الضغوط الأسرية والاجتماعية والنفسية المترتبة على تلك الفضيحة؛ فقررتا إنهاء حياتهما.
القاتل الصامت.. الخوف وقلة الوعى دفعا "هايدى" و"بسنت" للموت كطوق نجاة من الفضيحة؛ ما فجر وقتذاك براكينَ الغضب إزاء هذا النوعِ من الجرائم
تُخبرنا الدكتورة جهاد حمدى مؤسسة إحدى المبادرات الداعمة للمرأة بأن هناك الكثير من الحالات المماثلة، لكنها طىّ الكتمان بسبب الموروثات الاجتماعية، خاصًة فى المحافظات.. تقول "جهاد": "فيه حالات انتحار محدش يعرف عنها حاجة، بسبب قيود الخوف على السمعة ووصمة العار خاصًة فى الأقاليم".
يُعرف العنف الرقمى بأنه أى سلوك أو فعل إجرامى يُرتكب باستخدام الإنترنت أو المنصات الرقمية أو وسائل الاتصال الحديثة، ويترتب عليه إيذاء نفسى أو معنوى أو جنسى أو اجتماعى أو اقتصادى للضحية.
يشمل العنف الرقمى جرائم التهديد والابتزاز، والتحرش، والتشهير والسب والقذف، والتنمر أو الإساءة اللفظية، انتهاك الخصوصية الرقمية، ويتم الوصول للضحايا من خلال عدة وسائل تشمل منصات التواصل الاجتماعى أو البريد الإلكترونى، أو تطبيقات الدردشة أو المنصات الرقمية الأخرى.
وفى عالم المشاهير أيضًا.. طالت جرائم العنف الرقمى فنانات وناشطات باستخدام مواد مُنتجة بالذكاء الاصطناعى، أحدث تلك الجرائم ما تعرضت له الفنانة هيفاء وهبى، حيث تم التشهير بها من خلال نشر وتداول فيديوهات لها خادشة للحياء مُنتجة بالذكاء الاصطناعى، وتقدمت ببلاغ فى ديسمبر الجارى، متهمًة عدداً من الحسابات على منصات التواصل الاجتماعى، وجارى تتبع مسار الجناة، وفق المستشار شريف حافظ محامى الفنانة.
سبقتها "أميرة حسان" الشهيرة بـ"أميرة الذهب" التى تمتلك سلسلة محلات ذهب شهيرة تعرضت للتشهير عقب محاولة ابتزاز، باستخدام فيديوهات مفبركة باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعى AI، وتقدمت ببلاغ إلى مباحث الإنترنت، وتم ضبط الجناة.
المحامية والناشطة الحقوقية نهاد أبو القمصان عضو المجلس القومى للمرأة، لاحقتها أيضا رسائل إلكترونية تحمل تهديدا وسبا وقذفا، ولجات إلى مباحث الإنترنت أيضا، وتم التوصل للجناة .
تتعدد القصص وتتزايد الجرائم فى العالم الافتراضى؛ خاصًة مع ثورة الذكاء الاصطناعى، تلك التقنية التى أحدثت نقلة غير مسبوقة فى عالم الجريمة الرقمية؛ ما يضاعف المخاطر.
هذا التحدى لا يقتصر على دولة بعينها، بل هو تحد يواجه المنطقة ودول العالم كافة؛ ففى أوربا ـ على سبيل المثال ـ سجلت وكالة "يوروجست" زيادة بنسبة 25% في عدد قضايا الجريمة السيبرانية بين عامي 2023 و2024، وإن كانت التحديات أكثر جسامة بالنسبة للدول النامية، حيث تتسارع وتيرة التحول الرقمى دون استعداد كافى لمواجهة المخاطر المصاحبة، ما دفع منظمة الأمم المتحدة لاعتماد اتفاقية لمكافحة الجريمة السيبرانية، والتى فُتحت للتوقيع فى 25 أكتوبر الماضى، وهى أول اتفاقية أممية من نوعها تتيح التعاون الدولى وجمع وتبادل المعلومات والأدلة الرقمية، لمواجهة تهديدات الجرائم السيبرانية.
نسلط الضوء فى هذا التحقيق على مصر كنموذج للدول التى تواجه هذا التحدى..
بمزيد من البحث وجدتُ العشرات من "هايدى" و"بسنت" ممن هُنَّ على قوائم انتظار الانتحار وقصصهن فى صناديق مغلقة بأقفال الصمت المطبق؛ وإن كانت النهايات مختلفة؛ لكن الأسباب وتفاصيل المآسى متشابهة؛ الكتمان خوفا من مجتمع لا يرحم الأنثى، كان عاملاً مشتركاً بين غالبية الضحايا اللاتى تحدثنا إليهنَّ.
تحدثنا إلى 25 ضحية بين لقاءات مباشرة ومقابلات عن بُعد عبر الهاتف أو رسائل صوتية، تراوحت أعمارهن بين الـ14 عامًا والـ 40 عامًا، من 5 محافظات مصرية مختلفة تشمل (القاهرة، ومحافظتين بالوجه القبلى هما سوهاج والمنيا، ومحافظتين بالوجه البحرى الدقهلية والإسكندرية) 4 ضحايا فقط من بين الـ 25 ضحية؛ تقدمن ببلاغات إلى مكاتب مباحث الإنترنت، والباقيات فضّلن الصمت أو الاستعانة بمبادرات المجتمع المدنى أو صديقات أو أصدقاء مقربين.
القلق والشك وعدم الثقة بالآخرين، مشاعر مشتركة بين جميع الضحايا وإن تفاوتت الدرجات، الخوف كان سمة مشتركة بين غالبيتهن، فجميعهن رفضن نشر الأسماء والصور أو أى وثائق تتعلق بهن، فيما عدا نماذج محدودة ممن وافقن على النشر، مع الالتزام بإخفاء أى بيانات تدل على هواياتهن.
العيون الزائغة والتوتر أثناء الحديث والانفعال المفاجئ فى بعض مواضع سرد القصة كانت مظاهر واضحة لغالبيتهن أيضًا؛ بالرغم من مرور فترة كبيرة على بعض تلك الوقائع، وكأن استحضار المشاهد ذهنيًا يعيد كى جروح غائرة فى أنفسهن.
قصص ضحايا العنف الإلكترونى أو الرقمى متشابهة، وإن كانت التفاصيل مؤلمة ولكل قصة خصوصيتها.. سنتناول من خلال هذا التحقيق 8 حالات تفصيلًا، تُمثل نماذج متنوعة من حيث الفئة العمرية وبيئة النشأة، ونوع العنف الرقمى الذى تعرضن له، وطريقة تعاطيهن مع الجريمة أيضًا.
لماذا نتناول العنف الرقمى ضد النساء والفتيات؟
تُمثل النساء والفتيات الفئة التى تتحمل الفاتورة الأكبر فى عالم الجريمة الرقمية؛ خاصًة فى المجتمعات الشرقية، هُنَّ الفريسة الأكثر إغراء للاصطياد فى أذهان المُستغلين عبر الفضاء السيبرانى، ففى نظرهم الأنثى هى الأضعف والأسهل اختراقًا.
لقد أصبحت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) حاملة فى رحمها المنصات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعى ساحات مفتوحة لانتهاكات ممنهجة ضد الإناث، خاصة بعد دخول تقنية الذكاء الاصطناعى والتزييف العميق للمحتوى المرئى.
فى هذا السياق، حذرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة من تصاعد العنف الرقمي ضد النساء بفعل طفرة الذكاء الاصطناعى، مؤكدة أن نحو 1.8 مليار امرأة وفتاة حول العالم يفتقرن للحماية القانونية إلكترونياً.
يوضح الدكتور معز دريد المدير الإقليمى للمنظمة بالدول العربية لـ"برلمانى"، أن تقنيات الذكاء الاصطناعى ضاعفت معدلات الجرائم الرقمية، ولا سيما "الانتقام الإباحى" عبر نشر محتوى جنسى دون موافقة الضحايا.
يذهب دريد إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول إن البيانات لدينا كشفت أن العنف الرقمى يدفع عددًا متزايدا من النساء إلى الانسحاب من الفضاء الإلكترونى تماما، فواحدة من كل 5 ناجيات حذفت حساباتها على منصات التواصل الاجتماعى أو عطلتها.
ولا تقتصر تداعيات العنف الرقمى على الفضاء الإلكتروني ـ يقول "دريد" ـ بل تمتد من خلف الشاشة إلى الواقع، متسببًة فى عواقب ملموسة على حياة النساء والفتيات؛ فقد أفادت 44% من النساء اللواتى تعرضن للعنف الرقمى خلال عام واحد، بأن هذا العنف تحول إلى اعتداءات أثرت بشكل مباشر على واقع حياتهن؛ كما وثقنا حالات عديدة أدى فيها العنف عبر الإنترنت إلى انتهاكات جسيمة في الحياة الواقعية، شملت جرائم قتل ارتكبت بذريعة الشرف.
الانتهاكات الرقمية تستهدف على نحو خاص الناشطات الحقوقيات، والصحفيات، فـ70% من الصحفيات والناشطات والعاملات فى مجال حقوق الإنسان طالهم العنف الرقمى - وفق "دريد" - محذرًا من أن استمرار الإفلات من العقاب فى الفضاء الرقمى يهدد النساء ويقوض الديمقراطية.
اتسعت دائرة مرتكبى الجريمة الرقمية أيضًا؛ فمن طعنات القريب الغادر إلى شباك العصابات المنظمة، ويظل الهاتف المحمول الثغرة التى ينفذ منها المبتزون متسترين وراء أقنعة رقمية زائفة، للإيقاع بالضحية فى فخ الاختراق.
لقد أحدث التطور التقنى والذكاء الاصطناعى نقلة غير مسبوقة فى عالم الجريمة الرقمية ضد المرأة، ما يجعل المستقبل محفوفًا بالمزيد من المخاطر؛ التى تستلزم الاستعداد لمواجهتها، يؤكد الدكتور عبد قطايا، خبير الأمن السيبرانى الإقليمى.
وفى مصر ـ حيث الوطن الذى أعيش فيه ـ تُعد "النساء والفتيات" الفئة الأكثر استهدافًا فى الفضاء الرقمي، خاصًة في جرائم التحرش، والابتزاز، وانتهاك الخصوصية؛ هذا ما أكده لنا "المجلس القومى للمرأة"؛ منوهًا بأن خطورة العنف الرقمى تفوق أنماط العنف التقليدي؛ نظرا لامتداد أثره وسرعة انتشار المحتوى المسىء وصعوبة السيطرة عليه بعد نشره، مما يعرض حياة الضحية لأذى لا محدود.
ليس هذا فحسب؛ فمن واقع مُعطيات تحصلنا عليها من مبادرات المجتمع المدنى المعنية بدعم ضحايا العنف الرقمى، من بين أهمها "قاوم" و"محاربو التحرش والابتزاز"، و"Speak up"؛ فإن عدد ضحايا العنف الرقمى من النساء والفتيات قد تضاعف بصورة مرعبة، حيث يتراوح عدد الحالات التى تستقبلها هذه المبادرات من 300 إلى 350 حالة يوميا.
تؤكد أمل عبد المنعم مدير مكتب الشكاوى بالمجلس القومى للمرأة لليوم السابع اتساع نطاق جرائم العنف الرقمى مع ثورة الذكاء الاصطناعى؛ فانتشرت فى الأونة الأخيرة جرائم التهديد والابتزاز باستخدام صور أو مقاطع فيديو مُفبركة بتقنيات الذكاء الاصطناعى، إضافة إلى التنمر أو التحريض ضد الضحية أو الهجوم الجماعى المنظم عليها عبر منصات التواصل الاجتماعى، وهذه الجريمة تُستخدم كأداة لدفع المرأة للانسحاب من المجال العام.
الإطار القانونى الحاكم للعنف الرقمى فى مصر
يُجرم القانون المصري العنف الرقمي عبر(المادة 327) من قانون العقوبات رقم 136 لسنة 1956؛ بينما يضع قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 إطارا تشريعيا شاملا لتجريم الأفعال التي تُرتكب عبر الفضاء الإلكتروني؛ ما يوفر حماية قانونية مباشرة للنساء والفتيات المستهدفات بالعنف الرقمى؛ ولكن التشريعات تبقى قاصرة، وتحتاج إلى مزيد من التطوير، بما يتناسب مع تطور الجريمة الرقمية، يوضح لنا المحامى شريف رسمى.
من كل ما سبق، أعدنا النظر فى قضية تبدو للوهلة الأولى أنها ليست جديدة، آملين تحرك المجتمع بدءا من نواته الأولى (الأسرة)، والمُشرع ومنظومة الإعلام، والمؤسسات ذات الصلة، لمجابهة هذا الخطر، وفى التفاصيل ما يجعل التكاتف أمرا حتميا.
على قوائم انتظار الانتحار!
جريمة "الابتزاز" واحدة من أكثر الجرائم الإلكترونية خطورًة على الضحية؛ لما تقود إليه من نهايات مأساوية قد تصل إلى الانتحار؛ حيث تعرضت 57% من النساء لأذى رقمى باستخدام الصور الشخصية أو مقاطع الفيديو، وفق الأمم المتحدة.
ويُعرّف حمدى أحمد المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدولة، هذه الجريمة بأنها تهديد بارتكاب فعل غير مشروع يمس الشرف أو الاعتبار لإجبار الضحية على تقديم مكاسب مادية أو معنوية، وتتعدد دوافع الجناة بين الانتقام، التشهير أو حتى التسلية، وتوصلت دراسة أجرتها الأمم المتحدة إلى أن واحدا من كل أربعة جناة يرون أن هذا السلوك "حقًا" لهم؛ بينما أكد 23% منهم أنهم فعلوا ذلك للتسلية.
تتردد على أذنى صرخات أمهات تعرضن بناتهن للابتزاز عبر مواقع التواصل أو التطبيقات الذكية؛ فانتهى الأمر ببعضهن إلى الانتحار وبعضهن يُوشك على الخُطوة.
(نبيلة).. واحدة من بين تلك الصرخات.. أم لفتاة فى الـ19 من عمرها، أطلقت فى أكتوبر الماضى استغاثًة عبر إحدى مبادرات دعم المرأة ضد العنف الرقمى؛ حيث اختلس شاب صورة لابنتها منشورة على حسابها بمنصة التواصل الاجتماعى "انستجرام"؛ ثم أنتج منها عدة مقاطع جنسية مُفبركة؛ مستخدما تقنية الذكاء الاصطناعى؛ للتشهير بها والإضرار بسمعتها.
"بنتى سمعتها اتدمرت".. بهذه العبارة صرخت الأم بقلب مُحترق، وبتتبع القصة وجدنا استجابةً من وزارة اداخلية التى نشرت بيانًا يوم الأربعاء الموافق 22 أكتوبر الماضى، أوضحت فيه ملابسات الواقعة وأن الشاب قام بفبركة مقطع مصور غير لائق للفتاة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ بسبب رفضها الزواج منه.
"فخ" إعلانات الوظائف الشاغرة..
تتعدد طرق الجناة لاصطياد الضحايا، وهنا يحذر أحمد الغباشى مؤسس إحدى المبادرات المعنية بمكافحة العنف ضد المرأة من الانسياق وراء إعلانات الوظائف الشاغرة مجهولة المصدر أو "جروبات" التوظيف المُنشأة على منصات التواصل الاجتماعى، والحسابات الوهمية التى تُقدم وصفات التخسيس ونحت الجسم وغيرها من الخدمات التى تجذب النساء والفتيات، مؤكدًا أنها بوابة الجناة لاستدراج الضحايا.
بين أزقة "ميت غمر" بمحافظة الدقهلية، كانت "إسراء" ـ وسنكتفى بالاسم الأول بناءً على رغبتها ـ تحمل شهادتها الجامعية كحلمٍ لشابة فى الـ22 من عمرها، يحدوها الأمل فى رد الجميل لأسرةٍ أنهكها الكفاح لتراها خريجةً.. لم يدر بخلد "إسراء" أن منشوراً براقاً على "فيسبوك" يحمل بين طياته عرض وظيفة سكرتارية براتبٍ مغرٍ(8500 إضافة إلى الحوافز والمكافآت )؛ ليس إلا شباكاً ينصبها صياد بلا ضمير للإيقاع بها.
ما يثير الريبة أن الشركة صاحبة العرض ـ وفق ما ورد فى إعلانها الذى حصل "برلمانى" على صورة ضوئية منه ـ لا تشترط مؤهل معين، ولا "تارجت"، ولا دفع رسوم، كما تطلب عددًا لا نهائى من الموظفين.
الإعلان الوهمى للوظيفة فخًا لاستقطاب الضحايا
ساق الفتاة طموحها بلهفةٍ خلف وعود "سيدة" ناعمة الصوت (عارضة الإعلان)، طلبت من "إسراء" صوراً شخصية بذريعة التأكد من حسن مظهرها وملاءمتها للوظيفة المزعومة. بمجرد أن أرسلت "إسراء"الصورة، طلبت السيدة المزيد وسرعان ما تبدل اللين فجاجة، وتحولت الوعود الوظيفية إلى عروض مريبة للعمل "موديل" لملابس منزلية، وحين قابلت "إسراء" العرض بالرفض، كشفت اللعبة عن وجهها القبيح؛ رجل غريب يحدثها بدلًا من السيدة، إيحاءات خادشة، ثم الصدمة الكبرى: رسالة "واتساب" تحمل صوراً مُفبركة للفتاة بملابس داخلية، وتهديداً صريحاً بالفضيحة.
تسمرّت الدنيا في عيني "إسراء" للحظات، لكن معدنها الأصيل لم ينكسر؛ فواجهت المبتز بصلابة؛ مهددةً إياه بمباحث الإنترنت؛ مما دفعه للفرار خلف ستار "الحظر".
لم تمهل الدنيا الفتاة لتفرح بخلاصها من الكابوس، للأسف اكتشفت أن المجرمين تسللوا إلى بيانات صديقاتها من خلال حساباتها على منصات التواصل الاجتماعى، ولم تكن "إسراء" وحدها الضحية، فقد طالت الشباك صديقاتها أيضاً، وبدأت واحدة تلو الأخرى تُخبرها بما حدث؛ لكن سرعان ما تحول الخوف الجماعى إلى قوة دافعة، حيث قررن التوجه معاً لطلب القصاص القانونى، واضعات حدا لمسلسل الخداع الرقمى الذى يستهدف كرامة الفتيات وأحلامهن.
بسمة ـ ليس الاسم الحقيقى ـ فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها.. قصة لا تختلف كثيرا عن سابقتها؛ ولكن طريقة الاصطياد كانت مختلفة والتعاطى مع الأزمة أيضًا كان مختلفًا، انضمت "بسمة"، بعد أن أنهكها البحث عن فرصة عمل بديلة لتلك التى تركتها تركها منذ أشهر، إلى جروب على فيسبوك لا تعرف الفتاة الأعضاء المشتركين؛ لكنه مجموعة مُخصصة لمساعدة الباحثين عن وظائف.
عبر تطبيق "ماسنجر"، تواصل معها أحد أعضاء الجروب ادعى العمل فى شركة إنشاءات وعرض عليها وظيفة شاغرة، تملكت "بسمة" الفرحة بالفرصة المنشودة، خاصة أنها كانت بحاجة للمال لتجهيزات زواجها، ولإعالة أسرتها، فسارعت بإرسال بياناتها الشخصية إلى الشاب.
بعد يومين، ذهبت لموعد المقابلة المحدد في العنوان المحدد المُرسل لها وإذ بها تجد رجلا في الخمسينيات من عمره يستقبلها، حملت نظراته ما يجعل الفتاة ترتاب، سرعان ما حاول التحرش بها، فهربت صارخة من المكان وسط لامبالاة الحاضرين.
صباح اليوم التالي، وصلتها رسالة مجهولة تحمل صوراً مفبركة ومسيئة لها.. المبتز، الذى تبين أنه نفس الشخص الذى دلها على الوظيفة، خيرها بين تلبية طلباته أو إرسال الصور إلى خطيبها وأهلها؛ مُعطياً إياها مهلة 24 ساعة.
شلّت الصدمة تفكير "بسمة" فحاولت الانتحار، بعد فشل المحاولة واستعادة عافيتها، وجدت المزيد من رسائل التهديد من أرقام مختلفة.. لجأت إلى زميل ساعدها فى الوصول إلى المبتز ومساومته على مبلغ مالي، وبمساعدة أصدقائها إضافة إلى ما ادخرته من وظيفتها السابقة، وكانت تخصصه لتجهيزات الزواج، تمكنت "بسمة" من دفع المبلغ المطلوب.
توقف التهديد بعدها، لكن "بسمة" لا تزال تعيش في خوف مستمر، فقد أغلقت جميع حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعى وتخشى عودة الكابوس مجدداً، تقول بسمة "كابوس الفضيحة لا يزال يُطاردنى!".
يوضح المحامى حمدى أحمد أن (المادة 327) رقم 136 لسنة 1956من قانون العقوبات المصرى تغلظ عقوبة الابتزاز لتصل إلى الأشغال الشاقة إذا اقترن التهديد بمطالب مادية، بينما تتدرج لتصل للحبس والغرامة في حالات المساس بالشرف والاعتبار، كما تخضع هذه الجرائم لمواد العقاب بقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لسنة 2018.
من جانبه، أشار محمد اليمانى - مؤسس مبادرة لمكافحة العنف ضد المرأة - إلى تصاعد جرائم الابتزاز مؤخرا، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى، محذراً من صمت الضحايا خوفاً من الوصمة المجتمعية.
يؤكد هذا التحذير المهندس عبد قطايا، الخبير الإقليمى فى الأمن السيبرانى، كما حذر من الرسائل الإلكترونية التى تقدم عروض الجوائز والهدايا والمسابقات، خاصة فى رمضان والأعياد؛ فهى إحدى طرق الاختراق والاستدراج؛ منوها بعدم مشاركة البيانات الشخصية مع أى جهة قبل التوثق من مصداقيتها، وعدم قبول طلبات صداقة من أشخاص غرباء، ويشدد على ضرورة تفعيل وسائل الحماية التقنية للأجهزة وحسابات منصات التوصل الاجتماعى، من بينها خاصية التحقق بخطوتين.
وفى الإطار نفسه، تحذر دعاء يوسف الإخصائية النفسية الاجتماعية من الوقوع فى فخ "حسابات تقديم الاستشارات الطبية النسائية" غير الموثقة؛ مشيرة إلى أن كثيرا من الضحايا اللاتى تعاملت معهن، تم استدراجهن عبر هذه الحسابات.
شركاء حياة.. لكنهم !
تشير دراسة لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، إلى أن 60% من النساء بالدول العربية اللاتى تعرضن للعنف الرقمى خلال عام واحد، أكدن أن المعتدين كانوا مجهولي الهوية، و24% منهن أوضحن أن المعتدين من الأصدقاء، و21% من زملاء الدراسة، و14% من الأقارب، بينما ذكرت 13% أن المعتدين كانوا أزواجًا سابقين. تصل إلى مبادرات المجتمع المدنى، حالات لسيدات متزوجات تعرضن لابتزاز أزواجهن أيضًا. وفق ما كشفوا لـ"برلمانى".
"ل .ض".. أحرف أولى من اسم سيدة تبلغ من العمر 40 عامًا وتعيش بمحافظة الإسكندرية، تخشى الفضحية التى تكمن فى تفاصيل قصتها التى حتمًا تُجبرك على التفاعل معها؛ رغم أنها حاصلة على الدكتوراة وكانت تعمل بإحدى الوظائف المرموقة؛ إلا أنها لم تُرحم من أحكام مجتمع فى حاجة ماسة لتغيير نظرته للأنثى. كادت "ل .ض" تطير فرحًا حينما تقدم لخطبتها عريس "لُقطة" بلغة مجتمعنا وتم الزواج..لم يدر بخلد العروس السعيد أنها بداية معاناة ومشقة.
بعد فترة من الزواج، ظهر ماضٍ لهذا الزوج..علاقة غير شرعية أثمرت طفلة، وحينما علمت الزوجة طالبته بالطلاق فتحول إلى وحش ـ تقول الضحيةـ راح يعنفها بدنيًا لإجبارها على الصمت؛ وحينما لم يجدِ العنف البدنى، لجأ للعنف الرقمى فبدأ يهددها بنشر صور وفيديوهات لها خادشة للحياء.
تمادى فى تهديداته، تواصل "ل .ض" سرد التفاصيل بصوت تخنقه الدموع ـ ولاحقنى برسائل التهديد والابتزاز المادى عبر الإيميل وحسابات مزيفة بمنصات التواصل الاجتماعى. حملها بطفلهما الأول لم يثنيه عن تنفيذ تهديداته، والتشهير بـ"أم ابنه"؛ مستخدمًا جسدها وسيلة للانتقام.
تقول الضحية، بنبرات صوت يخنقها اليأس والندم لـ"برلمانى"، القتل كان أهون من نشر صورى الشخصية شبه عارية أمام كل الناس.. الفضيحة كسرتنى ودمرت سمعتى وعائلتى بأكملها، ووصمة عار سترافق ابنى طيلة حياته".
طويت ليالى حالكة السواد ـ تنسج الضحية خيوط مأساتها ـ ذات صباح أوقظنى جرس التليفون، وإذ بإحدى زميلاتى فى العمل تخبرنى بأن صورى وفيديوهات مفبركة لى مع شخص آخر وصلت على البريد الإلكترونى للعمل، من شخص مجهول.
أظلمت الدنيا فى عينى بعد أن فقدت وظيفتى ومستقبلى المهنى ضاع ـ تقول الضحية ـ فأقدمت فى تلك اللحظة على الانتحار للتخلص من هذا الكابوس؛ لكن تدخل أسرتى أنقذنى ودعمونى حتى لا أستسلم وأتقدم ببلاغ لمباحث الإنترنت، وبالفعل اتخذت الخطوة؛ وتمكنت من إغلاق الحسابات المزيفة التى نشر صورى من خلالها، بعد أشهر من التشهير بجسدى، كنت أموت كل يوم وكل لحظة.
ولا يزال البحث جاريا عنه بعد هروبه، فور علمه بالبلاغ المقدم ضده ..ما زلت أنتظر يومًا يُحاسب فيه عما ارتكبه لأشعر أن وُلدت من جديد. تقول الضحية.
"الصدمة خلتنى أسيب الشغل وحياتى وقفت"..بهذه الكلمات بدأت "هـ ـ م" ـ 32 عاماً مقيمة بالقاهرة ـ سرد أحداث روايتها، قائلًة :"تعرفت على شاب واتفقنا على الزواج لكنه تعثر ماديا، وطلب منى المساعدة، فأعطيت له كل ما ادخرته من عملى طيلة سنوات، واضطررت أن أخذ قرضا باسمى واديته المبلغ" .
صمتت الضحية لثوانٍ وكأنها تستجمع قواها؛ ثم قالت والندم يسبق كلماتها: "للأسف بدأ بعدها يتغير معى، وينسحب تدريجيا لحد ما اختفى.. لما سألت عرفت أنه خطب واحدة تانية..اتصلت به وطلبت يرجع لى شقا عمرى.. قالى ملكيش فلوس عندى ولو حاولتى تتكلمى هنزل صورك اللى معيا على كل المواقع.. عشان الناس تتسلى"
انهمرت دموعها وهى تقول: "أنا متحطمة ..بطلت شغل ..انعزلت عن الناس ..مش قادرة أبلغ أهلى.. الموت أهون عليَّ.. ولا قادرة أبلغ المباحث عشان ما اتفضحش ..عايشة وجمر نار جوايا.." ، حاولت إقناعها بألا تترك نفسها فريسة ابتزاز وتهديد وعليها أن تسلك المسار القانوني، ولكن غول الخوف بداخلها كان أقوى؛ فرفضت الإبلاغ قائلًة "خلينى مستورة ..".
آثار العنف.. ندوب بالروح لا تلتئم
يترك العنف بصوره كافة آثارًا غائرة فى نفس المرأة يصعب محوها، وبشكل خاص العنف الرقمى نظرًا لامتداد آثاره، مما ينعكس على صحتها النفسية والعضوية وسلوكها الاجتماعى أيضًا، وقد تفوق آثار العنف الرقمى ما تسببه الجرائم التقليدية.
هذا ما تؤكده الأبحاث النفسية ـ وفق حديث الدكتورة نيفين إدوارد استشارى الصحة النفسية والعلاج السلوكى لليوم السابع ـ مشيرًة إلى أن الضحايا يواجهن اضطرابات حادة تتجاوز مجرد الحزن، تبدأ من الاكتئاب إلى القلق المزمن، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، ونوبات الهلع، وصولاً إلى أفكار إيذاء الذات مثل الانتحار.
ينعكس هذا أيضًا على علاقة المرأة أوالفتاة بالعالم المحيط بها ـ تقول إدوارد ـ فتميل إلى العزلة والانسحاب المفاجئ من الدراسة أو العمل، وفقدان الثقة بالآخرين والعدوانية أحياناً، وقد تظهر أعراض عضوية مثل الصداع المزمن، واضطرابات الجهاز الهضمي، والاختلال الحاد في الشهية؛ نتيجة ارتفاع نسبة هرمون التوتر (الكورتيزول) فى الدم.
التشهير.. سلاح يقتل أسرة بأكملها!
تصدرت جرائم التشهير أشكال الانتهاكات الإلكترونية بحق المرأة، والأكثر شيوعاً في الفضاء الرقمي؛ حيث إن 67% من النساء مستخدمات الإنترنت بالمنطقة العربية تعرضن للتشهير، يلى ذلك التحرش الإلكتروني بنسبة 66 %، وفق هيئة الأمم المتحدة للمرأة.
يُعرف المحامى والحقوقى شريف رسمى المحامى، جريمة التشهير بأنها قيام الجاني بنشر معلومات عن الضحية عبر الوسائل الإلكترونية سواء كانت المعلومات صحيحة أو مضللة، بهدف تشويه السمعة.
ولكن.. هل يمكن أن يكون قاتلك بسلاح"التشهير" شخصًا ممن تجمعك بهم صلة الدم؟!
الإجابة تحملها لنا قصة فتاة يبلغ عمرها 17 سنة، وهى من فتيات إحدى قرى المنصورة التابعة لمحافظة الدقهلية.
القصة يرويها لنا الأب بصوت حمل الهموم بين نبراته، الأب يدعى (ك .م )، فيقول: "فى بلدنا البنات بتتجوز من شباب العيلة، فتقدم لبنتى شاب من العيلة عمره 28 سنة، لكن رفضنا عشان سنها صغير، عاود علينا الطلب تانى، ورفضنا تانى".
يواصل الأب سرد القصة، قائلاً: "هددنى أنه هينتقم ..بعدها تفاجأنا بصفحة على الفيس بوك باسم بنتى وعليها صور متفبركة لها، بدأ يعمل صفحة مش حقيقية باسمى أنا كمان ونزل عليها صور وفيديوهات متفبركة لبنتى فى أوضاع مخلة"، وهنا توقف الأب عن الحكى كأن الكلمات تجمدت بحلقه، ثم قال" ودى كلمة صعبة على أى أب".
انتظرته ليلتقط أنفاسه؛ ثم قال: "لجأنا لـمبادرات بتساعد الحالات اللى زينا، وساعدونا وحاولوا قفل الصفحات المزيفة، لكن بيرجع يفتح غيرها، أنا مرعوب على سمعة بنتى عشان كدا ساكت، مش عايز فضايح لبنتى أكتر من كدا" .
يقول الأب المكلوم فى ختام حديثه: "رجاء متجبيش اسمى ولا اسم القرية بتاعتنا عشان بنتى ما تتأذيش ويتشهر بها أكتر من كدا، احنا نفسنا فى حل من غير فضايح، وياريت توصلوا تجربتنا للناس عشان تاخد بالها من بناتها".
يؤكد المحامي شريف رسمى، أن التشهير جريمة رقمية تدمّر مستقبل الضحية وعائلتها؛ لذا عاقبها قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 فى المادتين 25 و26 بالحبس والغرامة. وتُغلظ العقوبة لتصل إلى الحبس 5 سنوات وغرامة 300 ألف جنيه إذا استُخدمت التقنيات الحديثة لربط بيانات المجني عليه بمحتوى خادش للحياء بهدف الإساءة لسمعته."
Deepfake (تقنيات التزييف العميق ) تُمكن مستخدمها من توليد مشاهد من الصفر وبالتالى إنتاج فيديوهات مزيفة بالكامل ويصعب تمييزها عن الحقيقية بالعين المجردة، إضافة إلى إمكانية تركيب وجه فتاة حقيقي على جسم أخرى، واستنساخ صوت الضحية ومزامنة الصوت مع الفيديو مزيف، هذا ما أوضحه الدكتور محمد مغربى استشارى الذكاء الاصطناعى والتأمين.
فتيات تحت المقصلة الرقمية أيضًا..
يتسع انتشار الجريمة الرقمية بين الفتيات والطفلات ممن تقل أعمارهن عن 18 سنة، تُخبرنا بذلك الإحصائيات؛ حيث أفادت غالبية الفتيات ممن تستخدمن الإنترنت بتعرضهن لأول أشكال التحرش عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين سن الرابعة عشرة والسادسة عشرة. وفق ما أوضحت لنا الأمم المتحدة.
فى مصر هناك 21 ألف بلاغ استقبله خط نجدة الطفل التابع للمجلس القومى للطفولة والأمومة، وفق إحصائيات له، خلال العام 2024، وزيادة بنسبة 20%، فى عدد البلاغات عام 2025 مقارنةً بالعام السابق، لكن البعض يفسر زيادة أعداد البلاغات بأنه مؤشر إيجابى على تحسن نسبى فى مستوى الوعى.
"إن التوسع الهائل فى استخدام الأطفال للإنترنت دون رقابة أسرية ـ يوضح لنا المجلس ـ بجانب استغلال الذكاء الاصطناعى فى الابتزاز الرقمى، ضاعف من حالات العنف الإلكترونى، كما أن صعوبة ملاحقة المحتوى الضار وضعف الوعي الرقمي لدى الأطفال والمجتمع أدى إلى تزايد أعداد ضحايا العنف الرقمى، مما يتطلب تكثيف جهود التوعية والحماية لضمان سلامة الصغار في الفضاء السيبراني."
الخوف يغتال براءة الملامح..
بقسمات وجه ترك الخوف عليها بصماته، كما تركها فى نبرات الصوت الملائكى الذى خاطبنتى به "ف .م" صاحبة الـ16 عامًا، وبكلمات بالكاد تسمعها لشدة الارتجاف، التقيتها بمحض الصدفة، بينما كنت أسعى للقاء أحد المسئولين بمباحث الإنترنت، ولم يحالفنى الحظ لإجراء مقابلة صحفية معه.
بداخل مقر وحدة، تلقى بلاغات المنطقة المركزية التابعة للإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات بوزارة التداخلية، وفى إحدى زوايا الغرفة المخصصة للانتظار بالطابق الثامن من البناية الكائنة بحى العباسية فى القاهرة، وقفت " ف.م" وكأن ساقيها بالكاد يحملانها، والدموع تكسو وجهها الرقيق وكانت فى حالة شبه انهيار، اقتربت منها بينما كانت تهم بالمغادرة، بعد أن تم إخبارها بضرورة إحضار ولى أمرها للتقدم ببلاغ لأنها أمام القانون طفلة لا يحق لها الإبلاغ بنفسها.
حاولت تهدئتها، وبالكاد بدأت تتقبل مساعدتى لها؛ وبعد أن هدأت قليلاً، سألتها عن مشكلتها لمحاولة تقديم المساعدة لها؛ فأبلغتنى بأن شخصًا تعرف عليها عبر منصة التواصل الاجتماعى "انستجرام"؛ قدم نفسه لها على أنه مصرى مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، ويبحث عن مواهب الغناء فى مصر لاستقدامهم للغناء فى أمريكا حيث إنه وسيط لشركة فنية تعمل فى هذا المجال.
الفرصة لمعت فى عيني الطفلة دون تفكير؛ لكن بعد فترة تحولت إلى كابوس تتمنى أن يوقظها أحد من عتمته.
تقول الطفلة ودموعها تلاحق نبرات صوتها: "بمجرد أن حصل على صور لى، كان قد طلبها بحجة تحديد ما إذا كنت أصلح للفرصة أم لا، بعدها طلب يعمل حاجة غلط بالفيديو".
تواصل الطفلة سرد قصتها قائلًة: "لما رفضت قالى، هبعت صور وحشة لك لبابا وماما، وأنه عارف يوصلهم إزاى، فصاحبتى نصحتنى أجى أقدم بلاغ من غير ما أهلى يعرفوا، لكن لما جيت هنا رفضوا لأنى طفلة وقالولى أتصل بخط نجدة الطفل، بس أنا خايفة بابا وماما يعرفوا، الموت عندى أهون".. توقفت الطفلة عن الكلام لينهمر على وجنتيها طوفان من الدموع المدفوعة بالخوف واليأس.
حاولت تهدئتها مجددًا، وإقناعها باللجوء لخط نجدة الطفل؛ لكنها رفضت؛ فعرضت عليها أن أساعدها للوصول لإحدى المبادرات التى تقدم الدعم لمثل هذه الحالات؛ فوافقت بعد أن طمأنتها بسرية بياناتها، وبدأت تلتقط أنفاسها مع رشفة صغيرة من الماء.
بالتأكيد هناك العشرات يعشن محنة تشبه محنة تلك الطفلة، ينتظرن من ينقذهن من براثن محتالى الشبكة العنكبوتية؛ بينما تلتهمهن مشاعر الخوف من الأسرة والمجتمع.
تقول الدكتورة جهاد حمدى: إن توعية الأسرة هى الخطوة الأساسية حتى يتعلموا كيفية التعامل مع أبنائهم فى حالة وقوعهم ضحية لجريمة رقمية، تؤكد جهاد. موضحة: لدينا برامج لتوعية الأسرة في حالة كان القاصر كان ضحية أو جانيا أو متورطا فى خطوة من خطوات الجريمة مع أطراف آخرين.
يوجه المجلس القومى للطفولة والأمومة اهتماما خاصا بتوعية الفتيات دون سن 18 عامًا، وذلك من خلال إطلاق حملات تستهدف توعية الفتيات والأطفال، بطرق الاستدراج ومن أخطرها الألعاب الإلكترونية، وكيفية حماية أنفسهم وبياناتهم الشخصية على الفضاء الإلكتروني.
يوضح المجلس لـ"برلمانى"، أنه يستقبل بلاغات وشكاوى العنف الرقمى من الأطفال أو البالغين عبر "خط نجدة الطفل"، على مدار 24 ساعة، كما تتخذ الإدارة إجراءات التدخل العاجل بالتنسيق مع النيابة العامة، ومكتب حماية الطفل بمكتب النائب العام، لضمان سرعة التعامل مع الحالة.
فى إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر، فى بناية من 5 طوابق، تكمن فى الطابق الثاث من تلك البناية قصة مختلفة؛ فبطلة القصة طفلة لم تتجاوز الـ14 عامًا؛ لكنها امتلكت من الشجاعة ما جعلها تصارح الأم بالأزمة التى تعرضت لها بعد أن راسلت صديقة بصور خاصة تستعرض فيها ملابس المنزل، واكتشفت فى النهاية أنها مراهق لم يتجاوز الـ16من عمره.
قررت الأم التقدم ببلاغ رسمى؛ رغم ترددها فى البداية؛ إلا أنها قررت ألا تترك المجرم يكرر جريمته مع أخريات. "بنتى مش بتعرف تنام وبتصحى تصرخ وبعدت عن كل أصحابها"، تصف الأم الحالة النفسية لابنتها. يتضاعف الأثر النفسى للعنف الرقمى بالنسبة للفتيات اللاتى يواجهن أشواك تلك الجرائم التى قد تخنق أحلامهن البريئة فى مهدها.
تؤكد الدكتورة مها عماد الدين، طبيبة نفسية، أن العنف الرقمى والأذى المادى والنفسى لا يكون موجهًا من ذكور لإناث فقط ؛ فقد يكون من أنثى لأنثى ، ترى أن الخطوة الأولى تبدأ بعدم إدخال التكنولوجيا مبكرًا إلى حياة أطفالنا أو من هم أقل من سن 16 عامًا.
وتوضح الدكتورة مها لـ"برلمانى" ضرورة تعليم الأطفال والطفلات أولًا كيف يحموا أنفسهم من مخاطر منصات التواصل الاجتماعى، وتوعيتهم أيضًا بالفرق بين "الهزار" على السوشيال ميديا والتنمر الرقمى وهى واحدة من الجرائم المنتشرة على نطاق كبير أيضاً.
استراتيجيات التعافي واستعادة الحياة..
توضح الدكتورة نيفين إدوارد استشارى الصحة النفسية والعلاج السلوكى، أن إعادة تأهيل الناجيات من العنف بشكل عام والرقمى بشكل خاص، ليس مجرد علاج طبي، بل هي عملية متكاملة تشمل الترميم النفسي من خلال جلسات "العلاج المعرفي السلوكي" (CBT) لتفكيك مشاعر الذنب واستعادة تقدير الذات، مع ترسيخ حقيقة أنها "ضحية" وليست "مذنبة".
وتؤكد "نيفين" على ضرورة تشجيع الضحية على العودة للحياة من خلال ممارسة الهوايات المحببة لها وبناء علاقات صحية تُبعدها عن ضغوط العالم الافتراضي والانضمام إلي مجموعات دعم نفسي وإحاطتها ببيئة نفسيه داعمة.
يوضح المحامي والحقوقي شريف رسمي أن قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته يمنح حماية خاصة للقاصرين (أقل من 18 سنة )ضد الجرائم الرقمية؛ حيث تُجرم المادة 116 مكرر استغلالهم في أنشطة غير أخلاقية أو إباحية عبر الإنترنت، بينما تُشدد المادة 96 العقوبة إذا كان المجني عليه طفلاً، كما عزز قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 هذه العقوبات لتصل إلى الجناية في حالات الاستغلال الجنسي؛ مؤكدًا ضرورة تطوير التشريعات لمواكبة التطور المتسارع للجرائم الرقمية.
يشدد المهندس وسام ماهر خبير الأمن السيبرانى على دورالأسرة فى مراقبة أبنائهم وبناتهم وعدم تركهم فريسة للفضاء الرقمى، و توعية الأطفال بالمخاطر التى تهددهم فى الفضاء الرقمى؛ فالوعى أهم من الحظر.
أنامل الصغيرات تقهر الجريمة برسومات الحرية!
شعاع ضوء يأتينا من بين أنامل الفتيات الناجيات من العنف ليضيء عتمة مشهد الجريمة ومقصلة الخوف فى العالم الرقمي. لوحات بارعة الجمال تدلنا على أن الأنثى منذ نعومة أظافرها جُبلت على القوة والصمود، تلك القوة التى لن تفلح قيود الخوف من الجريمة فى قهرها، هن يصنعن الأمل فى الفضاء الإلكترونى أيضًا. الكثير من الناجيات من العنف بصوره المختلفة ومنها العنف الرقمى تتجه فى فترة التعافى إلى الفن كأداة لإعادة بناء أنفسهن.
تقول الدكتورة سلمى الفوال مسئولة برنامج حماية بمنظمة اليونيسف، لـ"برلمانى": إن برنامج العلاج بالفن من أهم برامج "اليونيسف" لإعادة تأهيل الأطفال والطفلات الناجين من العنف بكافة أشكاله.
يبدع الأطفال فى رسم لوحات تعبر عن مشاعرهم و نحرص على عرضها فى معارض فنية وعلى هامش الفعاليات المختلفة، ومن الملاحظ أن معظم الفتيات تعبر رسوماتهن عن الحرية والانطلاق والعودة للتسلح بالأمل.
تشير "سلمى الفوال"، إلى الخطوات التى تتخذها "اليونيسف" لمواجهة العنف الرقمى من بينها إطلاق برامج للحماية بالتعاون مع الشركاء المحليين؛ وتنظيم ورش داخل المدارس لتوعية الطلاب بالاستخدام الآمن للإنترنت من خلال ألعاب تفاعلية، وتأهيل الناجين والناجيات باستخدام الأنشطة المختلفة، بالإضافة إلى التعاون مع خبرات دولية مثل منظمة الإنتربول لمواكبة مستجدات الجريمة الإلكترونية .
"تقدمنا أيضًا بتوصيات لوزارة التضامن الاجتماعي بإجراء تعديل على قانون الطفل ليشمل بندًا خاصًا بالعنف الإلكترونى، ولا يزال فى طور الدراسة" ، تقول "الفوال".
بالتوازى ـ تضيف - نعمل على بناء شراكات مع القطاع الخاص وخلق قنوات اتصال مع مسئولى منصات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعى، تضيف "الفوال".
هل الحماية فى الفضاء الإلكترونى.. ممكنة؟
فى ظل التطور التكنولوجي المتسارع وما يواكبه من تطور الجريمة الرقمية، هل يمكن توفير الحماية للإناث فى الفضاء الإلكترونى؟
يؤكد "المجلس القومى للمرأة"، فى إجابته عن سؤال "برلمانى"، أن الحماية مسئولية تشاركية بين عدة جهات، مشددًا على أهمية التوعية المجتمعية.
فى هذا الصدد، تقول المهندسة هدى دحروج مستشار وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لـ"برلمانى"، إن الحماية فى فضاء إلكترونى تحدٍ كبير يواجه جميع الدول؛ وتُعد "التوعية" بالمخاطر الرقمية وكيفية الوقاية منها خط الدفاع الأساسي لحماية النساء والفتيات والمجتمع من الجريمة الرقمية، مؤكدة أن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات تولى أهمية كبيرة لهذا الجانب، وتركز على مبادرات "التمكين الرقمى" بمعنى التوعية بالاستخدام الآمن للتكنولوجيا وتطور الذكاء الاصطناعي، وتنظم الوزارة أيضًا دورات تدريبية تقنية مجانية؛ وهناك برنامج "المواطنة الرقمية". تضيف دحروج لـ"برلمانى" .
استراتيجية أممية للمواجهة..
وفى إطار المواجهة الشاملة لخطر العنف الرقمى على النساء والفتيات، يوضح الدكتور معز دريد لـ"برلمانى"، أنه على الصعيد الإقليمي تنخرط هيئة الأمم المتحدة للمرأة في العمل مع عدد من الشركاء، من بينهم جامعة الدول العربية، لرفع الوعي بالعنف الرقمي ضد النساء والفتيات، ودعم تعزيز الأطر الاستراتيجية الإقليمية الخاصة بالوقاية من العنف الرقمى.
حملة الـ16 يومًا من النشاط لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات، ركزت هذا العام على العنف الرقمي ضد النساء والفتيات، وكانت هناك إرادة جادة من الشركاء للدعوة إلى تحرك عاجل من جانب شركاء الأمم المتحدة، والهيئات الإقليمية والوطنية، وشركات التكنولوجيا، والمجتمعات للتصدي لهذه الظاهرة، ومن خلال منبركم نكرر هذه الدعوة، يقول "دريد".
وعلى المستوى القُطرى، واصلت الهيئة عملها في مختلف الدول العربية من أجل إنهاء العنف الرقمى ضد المرأة، وذلك من خلال دعم أجهزة الشرطة ونظم العدالة، والمشرعين، ووسائل الإعلام.
وهنا يشير "دريد"، إلى أن مصر اتخذت خطوات مهمة للتصدي للعنف الرقمى، فقد وسعت الدولة نطاق قوانين تجريم التحرش الجنسي لتشمل الجرائم الرقمية؛ كما اعتمدت مصر تشريعات أشمل لمكافحة الاستغلال الجنسي الرقمى للأطفال، بما ينسجم مع الجهود الدولية الرامية إلى مكافحة الجرائم السيبرانية، مضيفا أن هناك اتفاقية مرقبة للأمم المتحدة المرتقبة بشأن الجرائم الرقمية والأمن السيبرانى.
"الأمم المتحدة" تدعو لتدابير شاملة للحماية..
أمام المخاطر المتزايدة للعنف الرقمى ضد النساء والفتيات، تدعو هيئة الأمم المتحدة للمرأة إلى توفير الموارد اللازمة لتدابير شاملة للوقاية والاستجابة، تستند إلى أجندة عمل بكين +30 بشأن الثورة الرقمية والقضاء على العنف.
تشمل هذه التدابير ـ كما يوضحها لنا الدكتور معز دريد ـ تجريم وحظر جميع أشكال العنف الرقمي ضد النساء والفتيات، وتعزيز قدرات أجهزة إنفاذ القانون على التحقيق في هذه الجرائم وملاحقة مرتكبيها.
تعزيز المساءلة والشفافية لدى شركات التكنولوجيا ـ يضيف "دريد "ـ من خلال الحذف الفوري للمحتوى المسئ، واعتماد سياسات فعالة لإدارة المحتوى.
"أمل".. الاستدراج بنقرة!
يحذر المهندس وسام ماهر خبير الأمن السيبرانى من الضغط على روابط إلكترونية (لينك) مرسلة من مصادر مجهولة، مشيرًا إلى أنها تستخدم أساليب الجذب أو الترهيب لدفع الضحية للدخول عليه وفتحه.
يقول وسام: بمجرد الضغط على الرابط الإلكترونى يتم الاختراق، كما يحذر من فتح الرسائل التى نستقبلها على البريد الإلكترونى من مصادر مجهولة؛ مشددًا على ضرورة اتباع الوسائل الحمائية لتأمين الحسابات الشخصية على السوشيال ميديا، من بينها ـ على سبيل المثال ـ اختيار كلمة مرور(باس وورد) معقدة، وإغلاق إمكانية الوصول للعنوان من خلال الصورة وذلك قبل رفع الصورة على مواقع التواصل الاجتماعى.
في غُمرة سعيها، وراء سراب "الجسد المثالي"، سقطت "أمل" ـ اسم مستعار ـ ضحية فخ رقمي نُصب بإحكام، إذ استدرجها رابط إلكتروني زائف نحو شباك "طبيبة وهمية" ادعت التخصص في التجميل، وبمهارة مريبة، بدأت الجانية في كسب ثقة الفتاة، متبددةً شكوكها بمقاطع صوتية أنثوية "مزيّفة" لتطمئنها وتدفعها لإرسال صورٍ خاصة لجسدها بدعوى "التشخيص".
لم تدرِ "أمل" أن حسن ظنها سيتحول إلى كابوس، فبمجرد إرسال الصور، انكشف القناع القبيح، وطالبها المبتز بالمزيد من صور عارية ـ وفق رواية الضحية لنا ـ ورغم محاولتها الفرار عبر "الحظر"، لاحقها المبتز من حسابات وهمية متعددة، مهددا إياها بالصور؛ فلجأت لإحدى مبادرات دعم المرأة، ونجحوا فى إغلاق كافة الحسابات التي تلاحقها.
الرقم المجهول بداية المتاهة..
تتعدد طرق الاختراق، فصاحبة هذه القصة "ك.ج" ابنة الخمسة وعشرين ربيعاً من محافظة المنيا، تعيش تداعيات نفسية قاسية جراء وقوعها ضحية للعنف الرقمي؛ والبداية كانت بمكالمة هاتفية من رقم مجهول لم تدم أكثر من ثانية واحدة ـ وفق حديث الضحية ـ لتزج تلك المكالمة بـ"ك .ج" إلى داخل متاهة لم تعرف للخروج منها سبيلًا حتى كتابة هذه السطور؛ حيث اُخترق هاتفها المحمول، ومن ثم دخل الجانى إلى الصور والمعلومات المحفوظة على الهاتف، وأيضاً حساباتها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعى، ثم قام بتهديدها عبر رسائل على تطبيق "واتساب" بنشر صور خاصة وأخرى مفبركة لها؛ لإرغامها على تصوير جسدها فى مقاطع فيديو وإرسالها له.
وتعيش الضحية حالياً حالة من الصدمة والعزلة؛ من الملاحقة أو التشهير، حتى انقطعت عن عملها كمدرسة؛ خوفاً من الخروج من منزلها؛ فهى تعتقد أن الجانى يراقب تحركاتها؛ وعلى عكس الكثير ممن التقينا معهن؛ حظيت الضحية بدعم أسري واعٍ؛ حيث قرر والدها سلوك المسار القانوني عبر تقديم بلاغ رسمي في الإدارة المركزية لمباحث الإنترنت بالقاهرة، بعيداً عن محيطهم الجغرافي؛ تجنباً لنظرة المجتمع الصعيدي وخشيةً على سمعة ابنته.
من جانبها، ناشدت والدة الفتاة المسؤولين والجهات المعنية عبر "برلمانى" لسرعة القبض على الجناة، موجهةً صرخة استغاثة لحماية مستقبل ابنتها الوحيدة، وتحذيراً لكل الفتيات من الوقوع في فخ الابتزاز الإلكتروني؛ وبصوت غلفته اللفة مع الرجاء، والاضطراب الشديد حاضر بين ثنايا كلماتها، قالت الأم :" ياريت تساعدينا .. دى بنتى الوحيدة .. خايفة المجرمين يقضوا على مستقبلها .. إحنا ناس في حالتنا ..مش قد الفضايح.. ودلوقت حتى الشغل خسرته وقاعدة محبوسة في البيت ، خايفة الناس دى يكونوا مراقبين تليفونها وعارفين تحركاتها ..خايفين يفضحونا ويشهروا بسمعتها ..ساعدوا كل بنت ما تتعرضش للخطر اللى بنتى بتعيشه دلوقت والتدمير النفسى وهى شايفة صورها في الأوضاع دى وعايشة تحت التهديد.. وصلوا صوتنا للمسئولين ..ولكل البنات عشان ياخدوا بالهم" .
فى هذا الصدد، يؤكد لنا اللواء محمود الرشيدى مساعد وزير الداخلية لأمن المعلومات سابقًا لـ"برلمانى"، أن الاختراق قد يكون أيضًا من خلال استقبال المكالمات الهاتفية الدولية من أرقام مجهولة، وأيضًا الدخول على مواقع إباحية حتى لثوانٍ، هى كافية لاختراق الهاتف.
الاختراق قد يكون من قِبل أفراد أو عصابات أو تنظيمات إرهابية أو أجهزة استخبارات دولية ـ يضيف "الرشيدى ـ فمصر من أكثر الدول المستهدفة من خلال حروب الجيل الرابع والجيل الخامس التى تعتمد على استغلال التكنولوجيا فى هدم المجتمع وخلخلة الدول، وتقع الجريمة الرقمية ضمن إطارها، مشيراً إلى أن مباحث الإنترنت تتابع مواقع التواصل الاجتماعى وتضبط الجناة فى وقت قياسى، وهناك تعاون عبر الإنتربول مع الدول الأخرى لضبط الجناة خارج مصر، وأمام هذه المخاطر يقترح"الرشيدى" إنشاء مؤسسة أو هيئة متخصصة فى الأمن السيبرانى.
تؤكد دعاء يوسف الأخصائية النفسية الاجتماعية ضرورة إيمان الضحية بأن المواجهة القانونية للجريمة قوة آمنة ضد كل فاسد وليست وصمة عار؛ فالقانون الدرع الرادع للجناة.
مطالب بتعديلات تشريعية..
يرى المجلس القومي للمرأة، أن تطور الجريمة الرقمية يستلزم تحديث التشريعات لمواكبتها وإدخال تعديلات تشريعية نوعية، منها تحديث تعريفات الجرائم الرقمية، إدراج أشكال الجرائم المستحدثة مثل انتحال الهوية الرقمية، استخدام تقنيات التزييف العميق (Deepfake)، والاستغلال الرقمي عبر المنصات والألعاب الإلكترونية.
يشدد المجلس لـ"برلمانى"، على ضرورة تعزيز الردع القانوني وتغليظ العقوبات في جرائم العنف الرقمي، خاصًة جرائم الابتزاز الرقمى.
يؤكد على المطلب نفسه، حمدى أحمد المحامى، منوهًا بأهمية تسريع مسار إجراء التحقيقات وإصدار أوامر حجب المحتوى المسيء.
فى هذا الصدد، يوصى شريف رسمى المحامى باعتبار استهداف النساء و القاصرات بهذه التقنيات ظرفا مشددا للعقوبة؛ وفتح قنوات تواصل فاعلة مع إدارات منصات التواصل الاجتماعى، وإلزمها بسرعة حذف المحتوى المسيء للضحية.
من جانبهم، يطالب مسئولو مبادرات مكافحة العنف ضد المرأة بضرورة تغليظ العقوبة لمرتكبى الجرائم الرقمية وإنجاز إجراءات التقاضى بوتيرة أسرع؛ مشيرين إلى أن إدارة مكافحة الجرائم الإلكترونية (مباحث الإنترنت) تبذل جهدا واضحا لملاحقة الجريمة؛ لكن مرتكبيها يطورون من أساليبهم بشكل سريع.
ما موقف مجلس النواب المصرى؟
حملنا هذه المطالب إلى لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمجلس النواب (السلطة التشريعية)، والتى يقع على عاتقها مسئولية كبيرة فيما يتعلق بجرائم العنف الإلكترونى ضد النساء والفتيات.
تقول النائبة مرثا محروس وكيل اللجنة، إن العنف الرقمى وخاصة الابتزاز من أهم القضايا التى يركز عمل اللجنة عليها، وطيلة خمسة أدوار انعقاد تقدمت بمشروع قانون خاص بالابتزاز الرقمى تحديدًا، أبرز بنوده أن تكون العقوبة الحبس مدة تتراوح من 15 إلى 20 سنة إذا أدى الابتزاز إلى موت الضحية، والحبس 3سنوات مع دفع غرامة مالية قدرها 150 ألف جنيه فى الحالات الأخرى، وتمت مناقشة المشروع فى اللجنة التشريعية؛ ثم أُحيل إلى النقاش فى الجلسة العامة؛ ولكن تم التأجيل.
شددت "مرثا محروس" على ضرورة إعادة طرح المشروع؛ إضافة إلى خلق قناة تواصل بين وزارة الداخلية ومؤسسات ومبادرات المجتمع المدنى الداعمة لضحايا العنف الرقمى لتبادل الخبرات والمعلومات، منوهةً بالدور المهم للمؤسسات الدينية (الأزهر والكنيسة ) فى توعية الأسرة والفتيات أيضاً.
ما دور الإعلام فى منظومة التصدى للعنف الرقمى؟
مما لا شك فيه أن دور الإعلام بمؤسساته المختلفة يتعاظم فى بناء ثقافة المجتمعات والحفاظ على قيمه، والتوعية المجتمعية.
يؤكد نادر مصطفى وكيل لجنة الثقافة والإعلام والآثار بمجلس النواب، أن اللجنة تلقت العشرات من طلبات الإحاطة تتعلق بمخاطر العنف الرقمى ضد المرأة، وقد عقدت عدة اجتماعات مع ممثلى الجهات ذات الصلة ووضعنا خطوطا عريضة لتحرك كل مؤسسة لمواجهة هذ الخطر.
يضيف "مصطفى"، أن دور البرلمان غير كافٍ؛ فلابد من تضافر جهود عدة جهات؛ ووضع استراتيجية إعلامية متكاملة للتوعية بالعنف الرقمى للمرأة من خلال تنظيم حملات إعلامية واسعة من خلال إعلانات الشوارع، ومنصات التواصل الاجتماعى.
وفى هذا الإطار تؤكد الدكتورة سوزان القلينى رئيسة لجنة الإعلام بـ"القومى للمرأة" وعميدة كلية الإعلام بجامعة ليوا بالإمارات، أن الإعلام شريك أساسي في مواجهة العنف ضد المرأة من خلال التوعية والتعريف بآليات الحماية والإبلاغ، وإبراز الرسائل القانونية، بجانب تسليط الضوء على النماذج الإيجابية الملهمة.
تشير"القلينى" إلى مساعى المجلس بالتعاون مع المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والمؤسسات الصحفية والإعلامية؛ لتفعيل وتحديث الكود الإعلامي لمعالجة قضايا المرأة في وسائل الإعلام، الذى صدر عام 2018.
رد الهيئة الوطنية للإعلام..
بعرض هذه المقترحات على الهيئة الوطنية للإعلام كشريك أساسى فى التنفيذ، أكدت لـ"برلمانى" ترحيبها بكل ما يخدم قضايا المرأة والفتيات والأطفال؛ التى تأتى فى صُلب خططها الحالية لتطوير رسالة إعلامية تهدف لبناء الشخصية المصرية الواعية؛ باستخدام كافة الوسائل مع التركيز على استخدام منصات التواصل الاجتماعى؛ خاصًة فى ظل التطورات المتلاحقة فى عالم الجريمة الإلكترونية والعنف الرقمى ضد المرأة ، وفوضى استخدام الإنترنت .
تؤكد الهيئة على أن أى حملة إعلامية تحتاج التنسيق بين كل الجهات المعنية ، ووضع خطة واضحة للجهود مشتركة.
دور "القومى للمرأة" فى مواجهة العنف الرقمى
يقوم المجلس برصد أنماط الشكاوى الرقمية وتحليل الاتجاهات العامة للجرائم حيث تُستخدم هذه البيانات في تطوير سياسات مواجهة العنف الرقمى ضد المرأة، بالإضافة إلى تبنى برامج توعية تستهدف الفتيات والأسر وتركز على التوعية بمخاطر التحرش والابتزاز الإلكتروني وسبل الحماية الرقمية وأهمية الإبلاغ وعدم الصمت وكسر الوصم المجتمع المرتبط بهذه الجرائم. تقول"أمل عبد المنعم" مسئولة مكتب شكاوى المرأة بالمجلس.
وتوضح "أمل" أن المجلس يتلقى بلاغات العنف ومنها الرقمى من خلال الخط الساخن 15115 أو الحضور إلى مقار المكتب بالمحافظات المختلفة، ويتم التعامل مع البلاغات الرقمية باعتبارها بلاغات عاجلة، كما يقوم المكتب بإحالة الشكاوى – بموافقة الضحية – إلى النيابة العامة أو جهات إنفاذ القانون المختصة.
وأخيرًا،،
يكشف هذا التحقيق عن تصاعد خطير للعنف الإلكترونى ضد النساء والفتيات ليس فى مصر فقط بل إقليميًا وعالميًا أيضًا، بما يهدد حقوقهن الأساسية وسلامتهن.
ورغم إحجام كثير من الضحايا عن الإبلاغ خوفًا من الوصم الاجتماعي، تؤكد الحالات المعلنة حجم الخطر الذى لا يطال النساء فحسب، بل المجتمعات ككل، خاصة في ظل تزايد الوقائع ذات العواقب النفسية الجسيمة وصولا للانتحار.
ويستدعي ذلك تحركًا عاجلًا يشمل تحديث التشريعات، وتعزيز الحماية الرقمية للفتيات والنساء، وتمكين المرأة تقنيًا، إلى جانب استراتيجية مستدامة للتوعية المجتمعية، ومحو الأمية الرقمية للأسرة، وتطوير برامج توعوية للفتيات دون 18 عامًا.
فهل تتكاتف الجهات المعنية لتحويل هذه المقترحات إلى واقع يصون كرامة النساء والفتيات وأمنهن وحياتهن في الفضاء الرقمي ولا يشجع على وأدهن رقمياً؟