<< الطبيب النفسي الذي فقد بيته وأخاه: نحن نُعالج الناس ونحن جرحى مثلهم
<< القطاع يعيش على أنقاض الأمل.. والطلب على العلاج النفسي غير مسبوق
<< الأطفال أكثر الفئات تضررًا.. آلاف الصدمات لا تسعها كتب الطب النفسي
<< الخيام تحولت إلى بيوتٍ للألم.. وفقدان المنزل أفقد الناس شعورهم بالانتماء والأمان
<< مشاهد الأشلاء والموتى تركت آثارًا لا تُمحى في ذاكرة الأطفال
<< الحرب جعلتنا جميعًا مرضى ومعالجين في الوقت نفسه
بين ركام البيوت المهدمة وصدى الانفجارات التي لم تغب عن سماء غزة خلال عامين، يعيش الفلسطينيون صراعًا يوميًا ليس فقط من أجل البقاء، بل من أجل الحفاظ على توازنهم النفسي، فهو واقع فاق حدود الاحتمال الإنساني، الحرب تركت ندوبها العميقة في النفوس قبل الأجساد، وخلفت جيلًا كاملًا يواجه صدماتٍ متكررة بين فقدان الأهل، وضياع المأوى، والخوف المستمر من المجهول.
في خضم هذا المشهد القاتم، يقف الأطباء النفسيون والعاملون في مجال الصحة النفسية في الخطوط الخلفية لجبهة لا تقل قسوة عن جبهات القتال، جبهة إعادة ترميم الإنسان الفلسطيني نفسيًا ومعنويًا، ففي هذا المشهد القاسي، تتبدى ملامح الألم النفسي الذي ينهش سكان غزة بصمت، خلف جدران تهدمت وأرواح تكسرت.
ومن قلب هذا الواقع الموجع، يتحدث الأطباء النفسيون بلغة الإنسان قبل الطبيب، ليصفون حجم الانهيار النفسي الذي طال كل بيت وكل قلب، ويكشفون كيف غيرت الحرب ملامح الوجدان الجمعي، وأدخلت المجتمع في دوامة من الصدمات الممتدة عبر الأجيال، من بين هؤلاء، الدكتور عبد الكريم عاشور، رئيس برنامج غزة للصحة النفسية، الذي واكب منذ بداية العدوان تداعياتها على سكان القطاع، وحاول مع فريقه الميداني التخفيف من وطأة الألم النفسي الذي طال الكبير قبل الصغير.
في هذا الحوار، يفتح الدكتور عاشور قلبه وعقله ليتحدث عن الآثار النفسية المدمرة للعدوان على الفلسطينيين، وعن انعكاساتها على الأطفال والأجيال القادمة، كاشفًا عن حجم المعاناة، ونقص الخدمات، وأمل خافت لا يزال يلوح في الأفق رغم كل الخراب، كما يتطرق إلى تأثير الحرب عليه شخصيا وعائلته ومرارة تكرار النزوح وغليها من القضايا والموضوعات في الحوار التالي..
الدكتور عبد الكريم عاشورالحرب طوال عامين على غزة كان لها أثرا بالغا على نفسية الفلسطينيين.. كيف تقيم الوضع النفسي بالقطاع؟
على الصعيد النفسي يمكننا الحديث عن التأثير النفسي للحرب بشكل عام وبشكل خاص.
لنبدأ أولا بالشكل العام ..كيف الوضع النفسي لسكان القطاع؟تعرض سكان غزة في شماله وجنوبه ووسطه لكافة أشكال التنكيل من قبل العدو الصهيوني خلال سنوات الحرب الماضية، والتي ما زالت مستمرة بكافة أشكالها من قتل وتشريد وهدم ودمار وحصار، وقد ألقى ذلك بظلاله وما زال، وسيترك آثاره المستقبلية على الوضع والحالة النفسية للفلسطينيين الذين فقدوا الأمن والأمان، وتعرضوا لخذلانٍ من الجميع، القريب والبعيد، ونتيجة لذلك تزايد الطلب على خدمات الصحة النفسية من خلال طلب الدعم والعلاج النفسي بشكل غير مسبوق، حيث تأتي معظم الحالات إلى عيادات ومصحات الطب النفسي بأعراض تتضمن الصدمات النفسية والاكتئاب واضطرابات القلق وغيرها، سواء من كبار السن أو الأطفال، ذكورًا وإناثًا، وهذه نتيجة طبيعية ومتوقعة، وردة فعل منسجمة مع ما عايشه ومر به جميع سكان القطاع من إبادة جماعية، وتهديد مستمر بالموت، وتجويع، ونزوح متكرر من مكان إلى آخر، وما رافق ذلك من استنزاف مادي ومعنوي طيلة فترة طويلة من الزمن.
هل كان للحرب تأثير على فئات خاصة داخل القطاع؟بشكل خاص، وأقصد هنا الأشخاص الذين عانوا من اضطرابات وأمراض نفسية قبل 7 أكتوبر، فقد فاقمت الحرب أوضاعهم النفسية على شكل انتكاسات مرضية بعد تحسنٍ نسبي، فبالإضافة إلى مآسي العدوان بجميع أشكاله، عانى المرضى النفسيون من شح وانقطاع الأدوية والخدمات النفسية خلال الفترة الماضية، حيث دأب العدو على تدمير المصحات وقتل وتشريد القائمين على خدمات الصحة النفسية، مما أدى إلى صعوبة وصول عدد كبير من المرضى – الذين فقدوا المأوى والمأكل – إلى الخدمات النفسية القليلة التي جاهدت بكل السبل والوسائل من أجل البقاء، والحفاظ على أداء دورها رغم كل التحديات والظروف القاهرة.
ما حجم الخطورة التي تمثلها الحرب على الأطفال من الناحية النفسية؟
بالنسبة للخطورة المترتبة لأحداث الحرب على الأطفال من الناحية النفسية بشكل خاص، فحدث ولا حرج، حيث بلغ عدد الأطفال الذين عانوا من آثار العدوان بالآلاف، منهم من فقد والديه أو أحدهما، ومنهم من فقد جميع أفراد أسرته، ومنهم من أُصيب أو بُترت أطرافه، ومنهم من مكث تحت ركام منازلهم التي قصفت فوق رؤوسهم لساعات وأيام.
الطبيب عبد الكريم عاشورما تأثير فقدان بعض الأطفال لوالديهم أو بتر أطرافهم على وضعهم النفسي؟
يمكن القول إن ما مرّ ويَمرّ به أطفال غزة وما نتج عنه، أدى إلى صدمات نفسية ومشاكل سلوكية واضطرابات في النوم، وغيرها من الأعراض التي أجزم أنه يصعب تصنيفها ضمن كتب الطب النفسي والممارسات التقليدية في هذا المجال.
كيف تقيمون تأثير الحرب على الأجيال الراهنة والمقبلة؟تأثير الحرب على الأجيال الراهنة وآثارها على الأجيال المقبلة، فدعني أجيب من الجانب النفسي، نظراً لما أحدثه الاحتلال خلال عدوان استمر لسنتين من دمار للبشر والحجر والشجر، فقد أدى ذلك إلى تغيير شامل في ملامح الحياة المألوفة، مما ألقى بظلال ثقيلة على منظومة المعتقدات والقيم، وأحدث تغيرات في الوضع النفسي لأفراد المجتمع بدرجات متفاوتة، تبعا لبنائهم النفسي وظروفهم المحيطة، سواء كانت داعمة أو هادمة، وبالنسبة للأجيال الراهنة، التي عاشت المأساة وما زالت تعاني من الفقدان والتشرد والجوع والحرمان، فقد تولد لدى الكثيرين شعور بالعجز، وتغير في المفاهيم والمبادئ، ورغبة في الهجرة طلبًا للنجاة، إن لم يكن لأنفسهم فلأجل أبنائهم، أما بالنسبة للأجيال القادمة، فبناءً على المعطيات وتداخل عوامل التنشئة والتجارب الحياتية، ووفقًا للدراسات النفسية السابقة، يمكن التنبؤ بامتداد الصدمات النفسية عبر أجيالٍ قادمة.
إلى أي مدى تؤثر حياة الخيام على نفسية المواطن الفلسطيني في غزة؟كما أسلفتُ سابقًا، فقد عمد الاحتلال منذ بداية الحرب إلى اقتلاع الإنسان الفلسطيني من جذوره بهدم منازله وسد سبل العيش أمامه، الأمر الذي أرغم المواطنين على النزوح وسكنى الخيام، واضطر الناس إلى عيش حياةٍ بدائية في ظل انقطاع التيار الكهربائي وكافة مصادر الطاقة التي كانت تيسر حياتهم، مما زاد من البؤس والشقاء، وانعكس سلبًا بشكل مباشر على الحالة النفسية والمزاجية لعدد غير محدود من سكان القطاع.
عبد الكريم عاشور أمام خيمته في مراكز النزوحكيف شعور الناس وقد هُدمت بيوتهم ولم تعد صالحة للسكن؟
أدى فقدان المنزل إلى فقدان الشعور بالأمان والانتماء للأرض، وولد تفكيرًا بالهجرة لمن استطاع إليها سبيلًا، خصوصًا في ظل شظف العيش، وقلة الموارد، وغلاء المعيشة، والوضع الأمني غير المستقر، وانعدام الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، التي دمرها الاحتلال بشكلٍ ممنهج منذ بداية الحرب وحتى اليوم.
هل وجد أناس داخل القطاع تملكهم شعور بالتخلص من الحياة؟تردي وشُح الخدمات، وعدم توفر العلاج بشكلٍ كافٍ طوال سنوات الحرب، أدى – كما أسلفت سابقًا – إلى تدهور الحالة النفسية لدى العديد من الحالات التي تعاني من اكتئاب مزمن، والذي يرتبط عادة بالتفكير في الانتحار أو وجود محاولات انتحار سابقة في التاريخ المرضي لبعض المرضى.
هل زادت محاولات الانتحار داخل غزة عن ما كانت عليه قبل العدوان؟بالعكس المفاجأة أنه قبل 7 أكتوبر 2023، كان المجتمع يعاني من تزايد هذه الظاهرة، التي غالبًا ما كانت نتيجة للأوضاع الاقتصادية الصعبة والمشاكل الاجتماعية، والغريب في الأمر – وخلافًا لكل التوقعات – أن هذه الظاهرة قد قلت خلال فترة الحرب، وهو أمر يستحق الدراسة والوقوف على أسبابه.
عبدالكريم عاشور مدير برنامج الصحة النفسية بغزةكيف تؤثر صور الأشلاء والموتى على عقلية الأطفال في غزة؟
أدت هذه المشاهد إلى معاناة العديد من الأطفال من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، إلى جانب مشكلات نفسية وسلوكية أخرى، كاضطرابات النوم، وفرط الحركة، والعنف، والعصبية الزائدة.
هل تسببت الحرب في إصابة بعض الأطفال بعدم النطق نتيجة الصدمات النفسية أو الإصابات؟نعم فقد تسبب العدوان في إصابة الكثير من الأطفال باضطرابات اللغة والنطق نتيجة الصدمات النفسية والإصابات، حيث قد تؤدي الصدمات لدى الأطفال إلى مشاكل في النطق مثل التلعثم، وفقدان النطق النفسي، واضطرابات في الكلام نتيجة للضغط النفسي أو إصابات الدماغ، وتشمل أعراض التلعثم صعوبة في البدء بالكلمات وتكرارها، في حين يتضمن فقدان النطق الكلام غير المفهوم أو التوقف المفاجئ عن النطق، وهنا ينبغي التنويه بأن فقدان النطق قد يحدث لأسباب نفسية في حالة الصدمات النفسية في حين تكون الأسباب عضوية في حال إصابات الدماغ .
عبد الكريم عاشوركيف يتم التعامل معهم؟
في حالات الصدمات يتم التدخل من قبل أخصائي نطق ولغة وكذلك تقدم خدمات العلاج الدعم النفسي، أما بالنسبة للحالات التي تعاني من اضطرابات الكلام أو فقدان النطق فتتم متابعتها من قبل تخصص جراحة الأعصاب بالإضافة لتدخل من قبل أخصائي نطق ولغة وكذلك خدمات العلاج والدعم النفسي.
هل أثرت الحرب عليك وعلى أسرتك؟قطعًا نعم، وبشكلٍ سلبي، وهذا ليس استثناءً، فقد أثرت الحرب بشكلٍ أو بآخر على معظم العائلات بدرجات متفاوتة، تبعًا لحجم الضغوط والأزمات التي تمرّ بها كل عائلة.
الدكتور عبد الكريم عاشور وأسرتههل فقدت أحد أفراد أسرتك خلال العدوان؟
نعم، لقد فقدتُ أخي الذي يكبرني بستة أعوام في قصفٍ مباشر بينما كنتُ أقف بالقرب منه، الأمر الذي أدى إلى إصابتي وإصابة ولديَّ وأبناء إخوتي خلال تلك الواقعة.
هل تضرر منزلك؟نعم، فقد هُدم منزلي ونزحت إلى مخيمات النزوح.
كم مرة اضطررت للنزوح؟عدد مرات النزوح لا أذكرها لكثرتها وتكرارها.
كيف أثر تكرار النزوح عليك وعلى أسرتك؟بالطبع أثر كثر النزوح ذلك عليّ وعلى أسرتي، فالقلم يعجز عن وصف المشاعر التي تراكمت عبر مرات النزوح من بؤس وألم وخوفٍ وعدم استقرار واستنزافٍ مادي ومعنوي، والسؤال الذي يفرض نفسه في كل مرة: إلى أين هذه المرة؟ فلقد ضاقت بنا الدنيا بما رحُبت.
ما هي أصعب لحظة مرت عليك خلال الحرب؟
أصعب اللحظات التي عشتها، شأنِي شأن كل من يعيش في غزّة، كانت أثناء القصف المستمر الذي لم يترك مكانًا آمنًا. حاولنا الانتقال من مكان لآخر بحثًا عن الأمان، لكن للأسف لم يكن هناك ملجأ حقًا، كل زاوية في المدينة كانت مهددة، وكل لحظة فيها كانت مليئة بالخوف والقلق.
صف أكثر المشاهد الإنسانية التي لا زلت تتذكرها خلال الحرب؟ومن المشاهد الإنسانية التي لن تُمحى من ذاكرتي، امرأة كانت تصرخ بحرقة بعد أن فقدت أطفالها نتيجة القصف، قابلة لقد مات الاولاد جوعانيين، قبل أن يتناولون وجبتهم البسيطة التي كانت تحضرها لهم بحب ورعاية.
كيف تأثرت بالمجاعة خلال الحرب؟
لك أن تتخيل حجم المعاناة هنا، أوزان الناس انخفضت بشكل كبير نتيجة نقص الغذاء وسوء التغذية، بالنسبة لي، فقد فقدت حوالي 15 كيلوجرامًا خلال السنتين الماضيتين، وكنت أصلاً لا أتمتع بوزنٍ كبير، فقد كان وزني أقل من 80 كيلوجرامًا، والآن اقترب من الستينات، لكن هذا ليس مجرد حالة شخصية، بل هي ظاهرة عانى منها معظم الناس في غزة.
الطعام أصبح محدودًا، والوجبات الأساسية غير كافية، ما يجعل الحياة اليومية معركة مستمرة من أجل البقاء على أقل حد من الصحة والطاقة، وهذه المعاناة الجسدية تأتي فوق الخوف النفسي المستمر من القصف، لتزيد الضغط على الكبار والصغار على حد سواء، وتجعل الصمود أكثر تحديًا، لكنها أيضًا تبرز قوة الإرادة والصبر لدى الناس الذين يرفضون ترك أرضهم رغم كل الصعاب.
هل تعرضت لقصف بجوار خيمتك أو مكان إقامتك وكيف تصرفت خلالها؟
أصعب شيء كان حماية الأطفال، محاولة تخفيف الرعب في عيونهم الصغيرة، وإبعادهم عن صوت القصف والانفجارات. أما عندما صار القصف قريبًا من خيمتنا، شعرت أنا وكل من حولي أننا على حافة الموت في أي لحظة، ولم يكن لنا من أمان سوى الله سبحانه وتعالى.
هل ترى أن الحرب جعلت الفلسطينيين أكثر تمسكا بارضهم ويرفضون تكرار سيناريو نكبة 48 ؟لقد تعلم الفلسطينيون عبر تاريخهم، أن المؤقت غالبًا ما يصبح دائمًا، كما حدث في النكبة الأولى، لكن رغم كل ذلك، بقى الناس صامدين ومتمسكين بأرضكم، وأظهروا قوة وصلابة لا تصدق وقد ساعد على ذلك موقف مصر والرئيس عبد الفتاح السيسي القومي والذي أغلق الطريق لهجرتهم الى سيناء.
ما هي رسالتك للعالم؟رسالتي للعالم من القلب: انظروا إلى الفلسطينيين بعين إنسانية قبل أي اعتبار سياسي، ساعدوهم في تلبية احتياجاتهم الإنسانية، واحترام طموحاتهم في الحرية، وبناء دولتهم المستقلة، والعيش بسلام وأمان، كما يعيش كل شعب على وجه الأرض.