في جميع أنحاء العالم تستغل اليوم الجماعات الإجرامية المنظمة الأدوات الالكترونية بشكل غير مسبوق، مما يخلف خسائر وتبعات هائلة تتزايد يومًا بعد يوم، وبات ضروري اتخاذ خطوات أكثر حزماً وجديةً على المستوى الدولي للتصدي لهذا التهديد.
في ظل التطور التكنولوجي الراهن، أصبحت الجماعات الإجرامية العابرة للحدود أكثر مرونة وخطورة، وهي تعمل من خلال شبكات إقليمية ودولية لتحقق أرباحًا طائلة ولغسل عائدات الجريمة.
وبفضل التكنولوجيا، تستطيع الجماعات الإجرامية تنفيذ عملياتها من أي مكان في العالم مستغلة أي ثغرة قانونية أو فنية، مع استهداف الأماكن والأنشطة التي تجلب أكبر الأرباح، بسرعة غير مسبوقة وعلى نطاق واسع لم يكن ممكنًا في الماضي.
يستخدم المجرمون أدواتٍ رقمية لسرقة الأموال والبيانات والمعلومات الحساسة، كما يوظفون التكنولوجيا في ارتكاب الجرائم التقليدية مثل الاتجار غير المشروع وغسل الأموال والاحتيال، كما يعرضون أدواتهم وخدماتهم للبيع.
وتتحذ الجريمة المنظمة العابرة للحدود أشكال مختلفة في عصرنا الحديث، منها الاستغلال الجنسي للأطفال والنساء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتعطيل الخدمات العامة بواسطة الهجمات الالكترونية، وبيع أخطر أنواع المخدرات في الأسواق السوداء الرقمية، وغيرها.
وتُظهر أبحاث مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن بعض شبكات الاحتيال بدأت في توظيف الذكاء الاصطناعي لتنفيذ عمليات احتيال تستهدف ضحايا في مختلف أنحاء العالم، مع استخدام العملات الرقمية لغسل عائدات هذه الأعمال الإجرامية.
نحن إذن أمام جيل جديد من الجريمة السيبرانية المنظمة، وعلى المجتمع الدولي التكاتف لمواجهته، فبينما تتبنى الجماعات الإجرامية أحدث التقنيات للإفلات من المحاسبة وتعظيم الأرباح الخاصة بها، لا تزال الجهود الدولية لمكافحة هذه الجرائم غير مترابطة وغير كافية.
وهذا التحدي يواجه دول العالم كافة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، أظهر تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي أن الخسائر الناتجة عن الجرائم السيبرانية ارتفعت بنسبة 33% بين عامي 2023 و2024، لتتجاوز 16 مليار دولار، وفي أوروبا، سجلت وكالة "يوروجست" زيادة بنسبة 25% في عدد قضايا الجريمة السيبرانية خلال نفس الفترة.
وان كانت التحديات ضخمة بالنسبة للدول الغنية، فهي أكثر حدة بالنسبة للدول النامية، حيث تتسارع وتيرة التحول الرقمي في هذه الدول دون استعداد كافٍ لمواجهة المخاطر المصاحبة.
وتعد منطقة أفريقيا جنوب الصحراء مثالاً واضحاً، حيث يشهد استخدام التكنولوجيا الرقمية طفرة كبيرة، إلا أنه لا توجد سوى خمس دول فقط من المنطقة ضمن الفئة العليا في مؤشر الأمن السيبراني العالمي للاتحاد الدولي للاتصالات.
وجدير بالذكر أن الجماعات الإجرامية بإمكانها استخدام نظام رقمي تم اختراقه في دولة ما لمهاجمة أنظمة رقمية في دول وأماكن أخرى، فتشير التقارير إلى أن بعض الدول النامية تُستخدم كمواقع اختبار للأساليب والتقنيات المستحدثة للهجمات الالكترونية.
لذا فهناك حاجة ماسة لرفع قدرات الأجهزة الحكومية، والمجتمعات بشكلٍ عام، في مواجهة الجريمة السيبرانية، ويشمل ذلك تطوير القوانين والقواعد اللازمة، وتوفير التدريب والأجهزة، وتعزيز التعاون بين الدول، كما نحتاج إلى رفع الوعي وتحسين الثقافة الرقمية، وتعزيز الوقاية.
ومن هنا تأتي أهمية اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة السيبرانية، والتي فُتحت للتوقيع في العاصمة الفيتنامية هانوي يوم 25 أكتوبر الجاري، وقد جاءت هذه الاتفاقية ثمرة مفاوضات استمرت خمس سنوات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وشاركت فيها نحو 160 جهة من شركات التكنولوجيا ومؤسسات المجتمع المدني والخبراء الأكاديميين.
وقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتفاقية في ديسمبر 2024، لتكون أول اتفاقية أممية من نوعها، تتيح التعاون الدولي وتحمي حقوق الإنسان في مواجهة الجريمة السيبرانية، كما أنها تمثل انتصارًا للدبلوماسية متعددة الأطراف، بدعم من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الذي قدم الخبرة الفنية والقانونية وكذلك الخدمات التنظيمية لعملية التفاوض.
وبمجرد دخولها حيز التنفيذ، ستكون الاتفاقية أول إطار عالمي لجمع وتبادل الأدلة الرقمية – وهي خطوة حيوية لملاحقة المجرمين الذين يستغلون مرونة العالم الرقمي والفجوات بين تشريعات وامكانيات الدول المختلفة للهروب من العدالة، حيث ستمكن الاتفاقية هيئات إنفاذ القانون على التعاون عبر الحدود الوطنية للحصول على الأدلة الرقمية واستخدامها في التقاضي.
كما أن الاتفاقية تُعرف الجرائم بناءً على الأفعال والنتائج بصرف النظر عن التكنولوجيا المستخدمة، مما يضمن فعاليتها حتى مع تطور التكنولوجيا واختلاف أشكال وأدوات الجريمة السيبرانية. وتخطو الاتفاقية أيضًا خطوات كبيرة لحماية ضحايا الانتهاكات الإلكترونية، خصوصًا من النساء والأطفال، من خلال وضع نصوص مخصصة لتجريم نشر الصور الحميمة دون موافقة أصحابها، وايضاً تجريم استغلال الأطفال جنسيًا عبر الإنترنت.
تتطلب مواجهة الجريمة السيبرانية قدرة جماعية على الصمود والتعاون، وفي هذا الصدد ستوفر الاتفاقية الجديدة قواعد دولية واضحة ومتفق عليها، وإطارٍ لتوفير التدريب والموارد لتعزيز الاستجابة للجريمة السيبرانية في جميع أنحاء العالم وخاصة في الدول النامية، ونأمل أن تنضم الدول لهذا الإطار الدولي الجديد وتستثمر في مستقبل رقمي أكثر أمانًا للجميع.
وقد وضعنا في مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة خطة عمل واضحة لتقديم الدعم الفني اللازم للدول لتنفيذ الاتفاقية والاستفادة منها.