الثلاثاء، 07 أكتوبر 2025 09:24 م

"ولا فى الأفلام".. لقاء صديقين مُقاتلين فى حرب أكتوبر بعد 52 عامًا غياب.. "الحاج سيد" طلب من نجله مقابلة صديق فى الحرب لم يلتقِهِ منذ الحرب.. والابن يستجيب لوالده ويسرد مشاهد تدمع لها العيون.. صور

"ولا فى الأفلام".. لقاء صديقين مُقاتلين فى حرب أكتوبر  بعد 52 عامًا غياب.. "الحاج سيد" طلب من نجله مقابلة صديق فى الحرب لم يلتقِهِ منذ الحرب.. والابن يستجيب لوالده ويسرد مشاهد تدمع لها العيون.. صور
الثلاثاء، 07 أكتوبر 2025 03:00 م
كتب علاء رضوان

يحتفى الشعب المصرى هذه الأيام بالذكرى الـ52 لانتصارات حرب أكتوبر المجيد أو حرب العاشر من رمضان أو حرب تشرين التحريرية أو حرب يوم الغفران، كلها أسماء لانتصار عظيم خلَّده التاريخ، ومازالت تتحاكى به إسرائيل كنقطة سوداء في تاريخها، وهي خامس الحروب العربية الإسرائيلية، وفى مثل هذه الأيام ينشط محرك البحث – جوجل - عن موضوعات حرب أكتوبر 1973، ويكون من أبرز هذه الموضوعات الأبطال الذين شاركوا في تلك المعركة الخالدة.

 

ومن أمثلة هؤلاء الأبطال الحاج سيد سليمان أو مولانا سيد المبروك مثلما أطلق عليه عناصر كتيبته والذي تجاوز الآن الـ82 من العمر، ولكن أحداث أكتوبر و67 ظلت عالقة في ذهنه من الوهلة الأولى، ودخوله الجيش وارتدائه الزي العسكري الذي اعتبره شرفا عظيما بالنسبة له وفخرا بين أقرانه وفخرا لأهله، فاستمر في الخدمة أكثر من 11 عاماً خاض فيهم حروبا عدة ومر بلحظات فرح وانكسار وموت وحياة، ويكشف لنا عن الجمل الذي كان دليلهم في الصحراء وكانوا يهتدون بالنجوم.    

 

سلمان 3

 

ولا في الأفلام.. لقاء صديقين مقاتلين في حرب أكتوبر  بعد 50 عامًا غياب

 

في التقرير التالى، لن نتناول كالعادة أحداث ووقائع وذكريات الحرب المجيدة، كما هو معتاد في مثل هذه المناسبات، ولكننا سنتحدث عن واقعة غريبة لا تتكرر كثيراً في حياتنا اليومية، حيث تذكر الحاج "سيد المبروك" صديق له في حرب أكتوبر لم يلتقيا منذ إنتهاء الحرب – أي منذ 52 سنة – وهذه الواقعة لو أردنا أن نضع لها عنواناً كبيراً لكان "ولا في الأفلام.. لقاء مقاتلين في حرب أكتوبر بعد 50 عام غياب"، وإليكم الوقائع يرويها لنا نجله "حسن سيد سلمان":

 

بمناسبة ذكري السادس من أكتوبر، يوم النصر والعزة والكرامة…

 

حدث منذ عدة أيام حكاية غريبة وعجيبة قد لا يُصدقها الكثيرين، بطلاها والدي وصديقه القديم، اللذان شهدا معًا أيام النكسة، وحروب الاستنزاف، ونصر أكتوبر المجيد.

 

قصةٌ تختصر معنى الوفاء والذاكرة والوطن..

 

لم يكن ذلك اليوم كأيِّ يوم، فقد اشتدّ المرض على والدي حتى وهنت قواه، ورفض بإصرارٍ الذهاب إلى الطبيب، وكأنّه كان يُخفي في صدره أمرًا لا نعلمه، وبعد محاولاتٍ كثيرة منّا، وافق أخيرًا، لكن بشرطٍ واحدٍ قاله بصوتٍ تملؤه الذكريات:

 

"أروح للدكتور… بس بعد ما أشوف صاحبي  مصطفى السيد".

 

توقّفتُ متعجّبًا، أسمُ الرجل لم أسمع به من قبل، لأنّ قريتنا صغيرة وأعرف جميع أصدقاء أبي. سألته بدهشة:

 

–"مين ده يا ابويا؟ وساكن فين؟". 

 

سلمان 1

 

ابتسم ابتسامةً شاحبةً يملؤها الحنين، وقال:

 

"صاحبي من أيام الجيش… آخر مرة شُفتُه كنا راجعين من الحرب".

 

ضحكتُ ممازحًا:

 

–"يعني من خمسين سنة كده؟!".

 

فأجابني بثقةٍ وصوتٍ مبحوحٍ بالشوق:

 

"أيوه… خمسين سنة، بس نفسي أشوفه اتوحشته يا ابني".

 

كانت لهجته صادقةً حدَّ الوجع، فعاهدتُ نفسي أن أُحقق له هذه الأمنية، أياً كانت الصعوبات.

 

تحركنا، أنا وأبي وأخي مصلح، الذي كان يمازحه ضاحكًا:

 

"لو لقيناه، هنجوّزك يا حاج!". 

 

سلمان 2

 

انطلقنا في طريقٍ طويلٍ نحو المركز الذي كان يقطن فيه صديق أبي. وبينما كان الصمت يخيّم علينا، كنتُ أدعو الله في سري: اللهم اجعلنا نهتدي إليه، وأدخل السرور على قلب أبي.

 

وحين وصلنا إلى المدينة، ركبنا توكتوك، وطلب أبي من السائق أن يسير ببطءٍ حتى يتذكّر الطريق. والمُدهش أنه بدأ يصف الشوارع والحارات وكأنه يسير فيها كل يوم!

 

وفجأةً صاح بصوتٍ مفعمٍ بالحياة:

 

"هنا… نزلنا هنا يا ابني!".

 

توقف السائق أمام بيتٍ قديمٍ تآكلت جدرانه، لكن عيون أبي كانت تلمع كأنه وجد ضالته بعد عمرٍ من الضياع.

 

قال لي بصوتٍ مرتعش:

 

"اخبط على الباب واسأل عن مصطفى".

 

طرقتُ الباب، فخرج رجلٌ تجاوز الخمسين، شعرُه أبيض وملامحه تشي بالوقار، سألته: 

 

–"الحاج مصطفى السيد هنا؟".

 

صمت لثوانٍ بدت دهراً، وقلبي يخفق خوفًا أن ينكسر خاطر أبي، لكنّه قال أخيرًا:

 

"أيوه، والدي جوّه نايم".

 

سلمان ننننن

 

كأنّ نسمةَ أملٍ مرّت على وجهي، لكن قبل أن ألتقط أنفاسي، صاح أبي بصوتٍ يملؤه الشوق:

 

"قول له صاحبك السيد سليمان… زميلك في الجيش عايزك!".

 

وما هي إلا لحظات، حتى خرج رجلٌ مسنٌّ يهرول بخطواتٍ متثاقلةٍ من أثر السنين، وما إن وقعت عيناه على أبي حتى تعانقا عناقًا طويلًا، تلاشت فيه خمسون سنةً من الغياب كأنها لم تكن.

 

كانت دموعهما تسبق كلماتهما، ووجهيهما يضيئان بفرحٍ صادقٍ نادر.

 

جلسا أمام البيت، يتبادلان الحديث والذكريات والضحك والعتاب، وكأنهما افترقا بالأمس فقط، لا قبل نصف قرنٍ من الزمان.

 

كنتُ أراقبهما وأنا أشعر أني أمام مشهدٍ من فيلمٍ حقيقيٍّ عنوانه "الوفاء لا يشيخ". 

 

سلمان 777777

 

أخرجت هاتفي والتقطت لهما صورةً تحفظ تلك اللحظة الخالدة — لحظةَ لقاءٍ جمع بين روحين افترقَتَا بنيران الحرب، واجتمعَتا ببركة الدعاء والوفاء.

 

عدنا إلى بيتنا بعدها، وكنتُ أشعر أن أبي شُفي قبل أن يرى الطبيب، فذلك اللقاء كان الدواء الذي لم تصنعه يدُ بشرٍ قط.

 

حين عدتُ إلى البيت في ذلك المساء، ظلّ المشهد لا يفارق ذاكرتي. كنتُ أرى في عيني والدي ضوءًا لم أره منذ زمن، كأنّ اللقاء أعاد إليه شبابه، أو كأنّ خمسين عامًا انزاحت عن كاهله دفعةً واحدة.

 

تأملتُ الموقف طويلًا، وأدركتُ أنّ الصداقة الحقيقية لا تُقاس بالزمن، ولا تُمحى بتقادم السنين.  

 

سلمان 7777

 

قد يفرّق بين الأصدقاء طريقٌ طويل، أو صمتٌ ثقيل، أو حياةٌ تمضي في اتجاهاتٍ متباعدة، لكنّ القلوب التي أحبّت بصدق لا تنسى. تبقى هناك مساحة في الذاكرة لا يقترب منها النسيان مهما امتدّ العمر.

 

لقد علّمني والدي في ذلك اليوم درسًا لم أتعلمه من الكتب ولا من الحياة نفسها؛ أنّ الوفاء هو المعجزة التي تُبقي الإنسان إنسانًا، وأنّ لقاءً واحدًا صادقًا، بعد نصف قرنٍ من الفراق، قادرٌ أن يرمّم ما هدمته السنوات ويُعيد للروح بهجتها.

 

رحلنا عن بيت صديقه، لكنّني كنت أعلم أنّ شيئًا عظيمًا قد وُلد من جديد في قلب أبي، وأنّ الله شاء له أن يفرح قبل أن يُشفى، وأن يلتقي بمن حفظه في ذاكرته كما يُحفظ النور في القلب.

 

ذلك اليوم لن أنساه ما حييت، فقد شهدتُ فيه وفاءً نادرًا ودموعًا أصدق من الكلمات، وذاكرةً أقوى من النسيان، في هذا اليوم العظيم، يوم السادس من أكتوبر، حين نستعيد بطولات رجالٍ صنعوا المجد. 

 

سلمان 66666

 

أتذكّر أبي وصديقه، اللذين شهدا الهزيمة، وصبرا في الاستنزاف، وفرحا بالنصر.

 

علّماني أن الوطن لا يُبنى بالحجارة فقط، بل بالوفاء والصدق والإخلاص، وأنّ الذاكرة التي تحفظ الأصدقاء بعد نصف قرن، هي نفسها التي تحفظ معنى الوطن في القلب.

 

رحم الله كلّ من قاتل وضحّى من أجل هذه الأرض، وحفظ الله من بقي منهم، شاهديْن على زمنٍ لا يُنسى، زمنٍ كتب فيه رجالٌ من لحمٍ ودمٍ… أعظم حكاية نصرٍ عرفها التاريخ. 

 

سلمان 88888
 

 


الأكثر قراءة



print