بعد مرور أكثر من 8 عقود على نهاية الحرب العالمية الثانية، تجد بولندا نفسها من جديد فى قلب مواجهة جيوسياسية معقدة. الدولة التى يبلغ عدد سكانها 38.7 مليون نسمة تواجه تهديدات متصاعدة من الشرق، مع تمركز روسيا على حدودها ومحاولتها تعزيز نفوذها الإقليمى، فى وقت تتزايد فيه الضغوط اليومية على وارسو من اختراقات جوية، وهجمات سيبرانية، فضلًا عن استخدام ملف اللاجئين كسلاح سياسى عبر بيلاروسيا، الحليف الأقرب لموسكو.
	 
	وتعود العداوة بين موسكو ووارسو إلى قرون مضت، حين خضعت بولندا لتقسيمات متتالية بين روسيا وبروسيا والنمسا، وظل جزء كبير من أراضيها تحت السيطرة الروسية، وبعد استقلالها عام 1918، دخلت فى حرب مباشرة مع الاتحاد السوفيتى عامى 1919 و1920، انتهت بانتصارها فى "معجزة فيستولا" وتوقيع معاهدة ريجا التى منحتها أراضى واسعة على حساب السوفيت.
	 
	وخلال الحقبة السوفيتية، أصبحت بولندا جزءًا من حلف وارسو وتابعة للنظام الشيوعى، قبل أن تنفتح على الغرب عقب انهيار الكتلة الشرقية عام 1989، ومنذ انضمامها إلى حلف الناتو عام 1999 ثم الاتحاد الأوروبى عام 2004، تحولت بولندا إلى "الجبهة الأمامية" للحلف فى مواجهة النفوذ الروسي.
	 
	ويزيد من حساسية موقع بولندا وجود "ممر سوالكي"، وهو شريط حدودى ضيق بين ليتوانيا وبولندا من ناحية، وبيلاروسيا ومقاطعة كالينينجراد الروسية من ناحية أخرى، هذا الممر يعتبر نقطة ضعف استراتيجية فى الخاصرة الشرقية للناتو.
	 
	ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، برزت وارسو كقاعدة أساسية لانتشار القوات الأمريكية والأوروبية، ومركزًا لوجستيًّا لعبور المساعدات العسكرية إلى كييف، فى إطار سياسة "الدفاع الأمامي" للحلف.
	 
	التوتر بلغ ذروته فى الأسابيع الأخيرة، إذ شهدت ليلة 10 سبتمبر 2025 أكبر اختراق من نوعه للمجال الجوى البولندى، بعد دخول أكثر من 20 طائرة مسيرة روسية، تمكنت قوات الناتو من إسقاط بعضها. كما اقتربت مقاتلات روسية من نطاق الأمان قرب منصة نفطية بحرية فى بحر البلطيق، ما دفع رئيس الوزراء البولندى دونالد توسك لوصف ما جرى بأنه "استفزاز واسع النطاق"، داعيًا لاعتراض أى جسم يهدد أمن بلاده.
	 
	ورغم نفى موسكو مسؤوليتها وتبريرها بأنها "أخطاء إلكترونية"، إلا أن مراقبين دوليين أكدوا أن حجم الاختراقات يكشف عن استفزاز متعمد.
	 
	كما لم تتوقف التهديدات عند الأجواء، بل امتدت إلى الفضاء الإلكترونى، حيث أحبطت وارسو خلال أغسطس الماضى هجومًا إلكترونيًّا ضخمًا مدعومًا من روسيا استهدف تعطيل إمدادات المياه بإحدى أكبر مدنها.
	 
	ووفقًا للسلطات، تواجه بولندا نحو 300 محاولة هجوم سيبرانى يوميًّا تستهدف محطات طاقة، مستشفيات، ومرافق حيوية، مما دفع الحكومة لتخصيص نحو مليار يورو هذا العام لتعزيز قدراتها الدفاعية فى مجال الأمن السيبراني.
	 
	من جانب آخر، لجأت بيلاروسيا منذ صيف 2021 إلى استخدام المهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا كوسيلة ضغط، عبر دفعهم لعبور حدودها إلى بولندا، وفى أبريل 2025، أكد البرلمان الأوروبى أن موسكو ومينسك متورطتان فى "تسييس الهجرة" فيما وصفه المشرعون بـ"الحرب الهجينة".
	 
	وردًا على ذلك، فرضت وارسو قيودًا مشددة على طلبات اللجوء من بيلاروسيا، مع تعزيز الإجراءات العسكرية والإنسانية على الحدود.
	 
	فى مواجهة هذه التهديدات، أطلقت بولندا أكبر برنامج تسليح فى تاريخها الحديث. ففى 2023 رفعت ميزانية الدفاع بنسبة 75%، وتسعى هذا العام لإنفاق نحو 4.7% من الناتج المحلى الإجمالى على الدفاع، وهى النسبة الأعلى بين جميع أعضاء الناتو.
	 
	وأصبح الجيش البولندى حاليًا، ثالث أكبر جيوش الحلف من حيث عدد الأفراد، حيث يضم نحو 216 ألف عسكرى، مع خطط لزيادة العدد إلى 300 ألف. كما وقعت وارسو صفقات كبرى لتحديث أسطولها من مقاتلات "إف-16" إلى النسخة الأحدث "بلوك-72"، بقيمة 3.8 مليارات دولار، بجانب استلام دفعات من مقاتلات "إف-35" الأمريكية ضمن صفقة قيمتها 4.6 مليارات دولار، سيتم تسليمها كاملة بحلول عام 2030.
	 
	ورغم أن الاحتمالات المباشرة للحرب ليست وشيكة، إلا أن حجم الضغوط العسكرية والسيبرانية والإنسانية يؤكد أن بولندا باتت خط الدفاع الأول فى صراع قد يعيد تشكيل ملامح الأمن الأوروبى لعقود قادمة.