الخميس، 21 أغسطس 2025 08:48 م

جنود الإنسانية على طريق غزة.. شهادات سائقين مصريين من قلب قوافل المساعدات بين التفتيش والملاجئ الخرسانية.. كواليس لحظات الخطر داخل الاحتلال عبر معبر كرم أبو سالم.. كريم: كل تعب يهون والمهم نوصل لإخواننا بالقطاع

جنود الإنسانية على طريق غزة.. شهادات سائقين مصريين من قلب قوافل المساعدات بين التفتيش والملاجئ الخرسانية.. كواليس لحظات الخطر داخل الاحتلال عبر معبر كرم أبو سالم.. كريم: كل تعب يهون والمهم نوصل لإخواننا بالقطاع المساعدات الإنسانية - صورة أرشيفية
الخميس، 21 أغسطس 2025 06:00 م
كتبت آية دعبس
- سائق مصري يرد على الانتقادات ضد مصر: بلدنا تعمل بأقصى كفاءة.. ونُعد 300 شاحنة يوميا للدخول والاحتلال لا يسمح إلا بأعداد محدودة قد لا تتعد الـ50 شاحنة
 
- سائق آخر: 20 يوما من الانتظار للتصريح بإنزال شحنتى ولم يأت بعد من الكيان
 
فى صباح كل يوم، تنطلق قوافل من الشاحنات المصرية محملة بأكثر من مجرد مواد إغاثية، إنها تحمل آمال شعب بأكمله وتضحيات سائقين يخاطرون بحياتهم فى رحلة محفوفة بالمخاطر نحو قطاع غزة المحاصر، خلف عجلة القيادة، يجلس رجال عقدوا العزم على أن تصل رسائل الإنسانية إلى وجهتها، مهما طالت المسافة أو تعقدت الإجراءات.

من خلال شهادات مباشرة لسائقين مصريين، نكشف كواليس هذه الرحلات الاستثنائية، بكل ما تحمله من تحديات وتضحيات ولحظات خطر حقيقى، تكشف عن البطولات الصامتة لرجال حولوا مهنتهم إلى رسالة إنسانية.

يحكى "كريم" أحد السائقين المشاركين بقوافل المساعدات الإنسانية لغزة، تجربته الاستثنائية بكلمات مليئة بالصبر والإصرار: "لقد مضت عشرون يوما بالضبط فى هذه الرحلة، ولم أتمكن حتى الآن من تفريغ حمولتي"، بهذه الكلمات البسيطة، عبر عن حجم التضحية لرجل ترك عائلته وحياته بين أبناءه، وحول شاحنته إلى بيت متنقل فى خدمة قضية إنسانية.

تبدأ الرحلة من ميناء العين السخنة، حيث تتجمع القوافل فى مشهد يثير الإعجاب، يصف السائق المشهد: "كنا حوالى ثلاثمائة شاحنة، يتم تقسيمنا إلى مجموعات، كل مائة شاحنة تشكل رسالة واحدة، بمجرد اكتمال التحميل، ننطلق متوكلين على الله".

الطريق إلى معبر كرم أبو سالم ليس مجرد مسافة جغرافية، بل هو سلسلة معقدة من المحطات والإجراءات، حيث يتم الحصول على التصاريح اللازمة، تتواصل الرحلة البرية الشاقة.. قد تستغرق ساعات طويلة، وأحيانا تمتد إلى أيام، حسب الظروف والإجراءات المعقدة من دولة الاحتلال.

"أحيانا نضطر للتوقف والانتظار فى نقاط تفتيش، وقد نبيت حتى الصباح قبل أن نحصل على إذن المتابعة والدخول"، يشرح السائق تفاصيل رحلة قد تتحول من ساعات إلى أيام من الانتظار.

وقبل الوصول إلى المعبر النهائى، تمر الشحنات بمحطة حيوية لتجهيزها للمرحلة الأكثر تعقيدا، هنا يتم وضع باركود على كل منصة تحميل، وآخر على واجهة الشاحنة، كنوع من أنواع التتبع الرقمى الذى يضمن سلامة عملية التفتيش النهائي.

عند وصول الشاحنات إلى معبر كرم أبو سالم، تبدأ فصول الرواية الأكثر تعقيدا وإثارة للأعصاب، يصف السائق إجراءات التفتيش المتعددة المستويات: "ندخل الجانب الإسرائيلى، حيث يخضع كل شيء للفحص الدقيق، نمر بثلاث مراحل للتفتيش: فحص الكابينة، والتفتيش اليدوى للبضائع، ثم فحص بالأجهزة المتطورة، وأخيرا جولة للكلاب البوليسية حول الشاحنة".

بعد هذا الماراثون من التفتيش، لا تنتهى المهمة بعد، بل توجه الشاحنات إلى ساحة واسعة مقسمة بأرقام محددة، حيث يقف كل سائق أمام رقمه المخصص، ثم يأتى الجزء الأكثر صعوبة نفسيا: الانفصال عن شاحناتهم، قائلا: "نترك الشاحنة ونخرج تماما من تلك الساحة، حيث يوجد مكان مخصص لانتظارنا".

فى ذلك المكان، يجلس السائقون فى حالة ترقب مستمر، ينتظرون أن ينادى على أرقامهم، قد يكون النداء يعنى وجود مشكلة تتطلب حلا، أو قد يكون إشارة للسماح بالعبور النهائى، وإذا لم تكن هناك مشاكل، يتم السماح للسائقين بأخذ الشاحنات والمتابعة.

عند السؤال عن مشاعر الخوف، لا يتردد فى إجابته فيجيب: "هذه مجرد إجراءات، ونحن كمصريين لا نخاف منهم، فى الواقع، هم من يشعرون بالقلق منا، حتى أن أنبوبة الغاز التى نطبخ عليها فى الشاحنات، نتركها على الجانب المصرى قبل المرور، فضلا عن معدات الطهى الشخصية، نتركها أيضا قبل الدخول".

ورغم هذا التحدى اليومى، يعبر "كريم" عن دافعه الإنسانى العميق للمثابرة، فى قوله: "والله الواحد بيشعر بالسعادة، بيحس أنه بيوصل شيئ لإخوانه، ويقوم بإنجاز مع الجيش المصري".

هذا الشعور بالإنجاز يجعل السائق يرفض بشدة أى اتهامات توجه لمصر بعرقلة المساعدات، معبرا عن ذلك فى قوله غاضبا:"هذا كذب، كل هذا الكلام كذب.. جيشنا والجهات المسؤولة عن تنظيم الدخول، يعملون بأقصى كفاءة ممكنة، نحن نفتش ثلاثمائة شاحنة يوميا".

هنا يكشف السائق عن المأساة الحقيقية التى يواجهونها يوميا، فبينما تجهز مصر مئات الشاحنات، يضع الجانب الآخر سقفا منخفضا لعدد الشاحنات المسموح لها بالعبور، موضحا: "يأخذون أول خمسين شاحنة فقط.. وينتهى عملهم فى الساعة الرابعة أو الخامسة مساء، وعندما تصل متأخرا، تكون ضمن ثلاثمائة شاحنة، لكنهم يأخذون الخمسين الأولى فقط، والباقى يعود أدراجه".

ويضيف:"نعود لنقف مرة أخرى فى الساحة الترابية، لنعيد المحاولة من جديد فى اليوم التالي"، هذه العودة تفرض عليهم الخضوع للتفتيش مجددا، لأنهم دخلوا منطقة قد يحدث فيها أى تغيير للشحنة، "تعرضت للتفتيش ثلاث أو أربع مرات وعدت إلى مكانى مجددا، لأننى كنت فى المنتصف أو فى النهاية، ولم يحالفنى الحظ للدخول.. والآن أدخل يومى الـ20 منتظرا السماح بإنزال الشحنة".

قسوة ما يتحمله السائقون المصريون فى نقل المساعدات لأشقائنا فى غزة، يظهر فى قصة يرويها "محمد" أحد السائقين المشاركين أيضا فى نقل المساعدات الإنسانية لغزة، قائلا: "ظللت فى انتظار نقل شحنة واحدة لمدة ثمانية أشهر كاملة.. والله العظيم ثمانية أشهر".. كانت شحنة مساعدات قادمة من إحدى الدول، ظلت عالقة تنتظر إذن الدخول من دولة الاحتلال، وللأسف الإذن لم يأت أبدا، وفى النهاية، فسدت هذه الشحنة وتم إعدامها".
 
ويوضح "محمد": تلك الشحنة لم تكن مجرد بضائع أو مساعدات، بل كانت ثمانية أشهر من الانتظار والأمل والترقب للعبور إلى فلسطين، لكن كل هذا انتهى إلى لا شيء، كان ذلك فى بداية مايو الماضى، عندما بدأت الضربات بالداخل.. كنت داخل معبر كرم أبو سالم"، ويكشف السائق عن واقع مؤلم آخر، وهو التفتيش المتكرر الذى يتعرض له السائقون: "حتى بعد كل هذه الإجراءات، قد يطلب منك العودة"، يقول بحسرة: "قد تدخل الشاحنة وتخرج محملة مرة أخرى بسبب خطأ فى التحميل أو بضاعة غير مغطاة بشكل صحيح، بعد دخولنا نمر بعملية التدقيق النهائى، وحتى بعد اعتماد الشحنة، قد يعيدون لك صناديق أو منصات للمراجعة مرة أخرى".
 
إنها دائرة مفرغة من الانتظار والتفتيش المتكرر، تحول المهمة الإنسانية إلى اختبار قاس للصبر والعزيمة، وتجسد معنى التضحية الحقيقية من أجل الأشقاء على الجانب الآخر من الحدود.
 
تتحول الرحلة أحيانا من تحد إلى مواجهة مباشرة مع خطر حقيقى يهدد الحياة، يتذكر أحد السائقين لحظات الرعب التى عاشها: " عند سؤاله: هل شعرت بالخطر؟ نعم، أوقات كثيرة.. أجبرونا على الجرى ودخولنا فى الملاجئ المحصنة، ويصف "محمد" المشهد فى قوله: "كنا نقف بالشاحنات، ومسؤولى المعبر من جانب الاحتلال يدخلون حوالى ثمانى أو عشر شاحنات معا.. نترك الشاحنات ونجلس فى مكان مخصص بينما يتم فحص الشاحنات.. فجأة، جاء من يأخذنا مسرعا: أجر بسرعة أيها السائق! أدخلونا فى غرفة مبنية بالخرسانة المسلحة لمقاومة القصف"، ويتابع: "تلك الغرفة، أعاذك الله من شرها، مكان مرعب بحد ذاته.. يدخلونك ويغلقون عليك لمدة ربع ساعة تقريبا، ثم يطلبون منك الخروج لتستقل شاحنتك وتتحرك بها.
 
يكشف السائق الثانى عن نظام شبه عشوائى يحكم عملية دخول الشاحنات من قبل الجانب الإسرائيلى، حيث تتجمع مئات الشاحنات رغم أن القدرة الاستيعابية محدودة جدا، قائلا:" نذهب ندخل أربع أو خمس مرات ونعود.. يطلبون منا قافلة كل يوم، مثلا مائة شاحنة، كل مجموعة خمس شاحنات.. يطلبون مائة وخمسين أو مائتى شاحنة، نذهب ونقف على الحدود، يأخذون ما يأخذونه، قد يكون خمسين أو أربعين شاحنة، والباقى يعود، أنه نظام يشبه اليانصيب، حيث الأمل معقود على رقم قد يأتى اليوم أو غدا أو بعد أسابيع.. ومن أخذ دوره اليوم لن يأخذه غدا، ويأتى غيره.. وهكذا يدور علينا الدور حتى يأتى نصيبك"، لكنه يحاول أن يبسط المعاناة على نفسه قائلا: فكرة إحساسك بأنك تحمل شيئا لإخوانك لدعمهم فى هذه الظروف الصعبة، وأنك تقوم بعمل مع الجيش المصرى، أمران يكفيان للانتظار.

الأكثر قراءة



print