وهنا أصبحت حدود الدول أكثر شمولا، حيث تجاوزت الموانئ وبوابات الجمارك، نحو أخرى غير مرئية، تحمل تأثيرا يفوق الأولى في ضوء شموليتها على النحو سالف الذكر.
وعلى الرغم من الفرص التي أتاحها الانفتاح الرقمي فيما يتعلق بالتبادل التجاري مثلا، نجد أن ثمة تكلفة باهظة في المقابل تكبدتها الدول، جراء وجود قوى اقتصادية ضخمة، في صورة منصات إلكترونية، ترتدي قناع الترفيه، ولكنها تتحكم في الإعلانات والتجارة الإلكترونية، وهو الأمر الذي كلف الدول النامية والمتوسطة مئات المليارات لصالح شركات أجنبية، منها "ميتا" و"جوجل" و"أمازون"، كما لا يمكننا أن نتغافل في الوقت نفسه عما ترتبت عليه تلك الحالة المنفتحة من تهديد أمني غير مرئي يستخدم سياسيا في أوقات السلم والحرب معا، في ضوء تسريب بيانات ملايين البشر من قواعد البيانات الحكومية واستخدامها في توجيه الرأي العام والتأثير على نتائج الانتخابات.
خسائر الولايات المتحدة..
وهنا تلوح في الأفق أهمية التوجه نحو سياسات حمائية تعرقل الانفتاح السيبراني، وهو ما يثير التساؤل متى وضعت حالة الإغلاق بذورها في الفضاء الرقمي؟
التصاعد الكبير في دور الفضاء الإلكتروني، خلق ساحة من النفوذ، يمكن استغلالها من قبل الدول، لفرض هيمنتها على العالم من خلاله، مما نجم عنه العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية، وكانت البداية في منطقتنا، مع اندلاع الربيع العربي، في بداية العقد الماضي، حيث تحولت مواقع "التواصل الاجتماعي" إلى وسيلة لنشر الفوضى وتغيير الأنظمة، بل أنها كانت تمثل في أحد إرهاصات توجيه الرأي العام، وهو ما بدا بعد ذلك في مشاهد أخرى في مناطق أخرى من العالم، منها على سبيل المثال الحديث المتواتر عن تدخل روسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2016، والتي فاز بها الرئيس دونالد ترامب على حساب منافسته هيلاري كلينتون، والأمر نفسه بدا في استفتاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.
هذه المتغيرات وغيرها، دفعت الدول إلى اتخاذ العديد من الإجراءات ذات الطبيعة الحمائية بهدف السيطرة على الفضاء الرقمي، من خلال فرض مفهوم السيادة عليه، على غرار الحدود الجغرافية وبوابات الجمارك، وهو ما يمكننا رصده في النماذج التالية..
وفي الولايات المتحدة، قررت إدارة الرئيس دونالد ترامب، خلال ولايته الأولى حظر هاواوى في عام 2019، بينما تحرك الكونجرس في إطار تشريعي خلال إدارة خليفته جو بايدن، عبر قوانين رقابة رقمية بين عام 2021 و2023، والهدف منها هو التضييق على الشركات الصينية، والمنصات، في حين يبقى قانون حظر تطبيق تيك توك أحد الأمور التي مازالت محلا للنقاش داخل الكونجرس.
في حين كانت الصين أكثر استباقا، حيث بدأت إجراءات فرض سيادتها على العالم الرقمي منذ 2003، عبر إنشاء الجدار الناري العظيم في 2003، والعمل على تحديثه بشكل مستمر ومنتظم، بينما شرعت قانون لحماية المعلومات الشخصية في 2021، كما عملت على فرض سيادة البيانات، وهو ما بدأ العمل به منذ عام 2017، وذلك لتقييد حركة البيانات خارج الصين.
ولكن بالرغم من كل الإجراءات سالفة الذكر، يبقى الخطر قائم وبقوة، مما قد يساهم في تعزيز مفهوم السيادة الرقمية، بإجراءات محتملة، أكثر تشددا، من خلال بناء منظومات حمائية تشبه في آليتها تلك التعريفات المفروضة على التجارة بينما تحمل في صرامتها طبيعة الجدران الفاصلة التي باتت تشيدها الدول على الحدود لمنع تدفق المهاجرين.
وفي تحليل سابق نشره معهد "بروكنجز"، أكد أن سياسات توطين البيانات تدفع نحو تصنيفها بحسب جنسيتها، وهو ما يفرض حالة أشبه بـ"القيود الجمركية"، على تدفق البيانات على غرار ما يحدث مع السلع والبضائع، أو قد تتجاوز ذلك لتصبح "مواطنا رقميا" يجب أن يحمل "جواز سفر" في الوقت الذي تستلهم فيه بعض الدول التجربة الصينية نحو بناء "انترنت سيادي"، يخضع للرقابة من قبل السلطات، مما يتيح لها السيطرة الكاملة في المحتوى المعلوماتي داخل حدودها، وهو الأمر الذي قد يشكل نواة لاستحداث "تأشيرة رقمية" للسماح بدخول المستخدمين من الخارج وفق شروط وربما رسوم معينة، بحسب ما خلص إليه تقرير بمجلة "وايرد".
وهنا يصبح استمرار الانترنت بصورته العالمية المفتوحة محل شك كبير، في ضوء تزايد المخاطر التي تواجهها الدول جراء الانفتاح الكبير وغير المحدود، وهو ما يعكس ارتباطه بالواقع الدولي، في حيث بزغ كـ"طفرة تكنولوجية" عملاقة تزامنا مع ذروة العولمة، وبدا كفترة طويلة كأحد أهم رموزها، ولكنه بات يواجه قيودا كبيرة في سياق دولي يتراجع فيه بريق الديمقراطية وتعلو فيه أصوات السيادة وتتداخل فيه سياسات الداخل مع صراعات الداخل.