بقلم: د. أميرة الحوفي
فى ضل المؤشرات النفسية العالمية التى تؤثر على بيئات العمل، لم تعد معاناة القائد من الاكتئاب مسألة فردية أو هامشية، بل أصبحت واقعًا يؤثر على جودة القرار، واستدامة الأداء، وصحة الفريق بأكمله. على الصعيد العام، تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2024 أن الاكتئاب واضطرابات القلق تكلف اقتصادات العالم نحو خسارةٍ قدرها تريليون دولار سنويًا نتيجة 12 مليار يوم عمل مفقود.
القائد.. جسد واحد بين الإنجاز والإنهاك
لم يعد دور القائد مجرد توجيه الآخرين أو إدارة فريق عمل؛ بل أصبح مسؤولًا عن استدامة ذاته قبل أى شيء آخر. فى عالم تتسارع فيه المتغيرات، وتزداد فيه الضغوط، أصبح القائد بحاجة إلى قدرة أكبر على الصمود، وذكاء عاطفى أعلى، وصحة نفسية متوازنة تساعده على اتخاذ القرار فى لحظات الحسم.
ومع تعقّد المشهد القيادي، يتفق العلماء على أن الطاقة النفسية للقائد لا تُبنى على الخبرة وحدها، بل على كيمياء دقيقة داخل الدماغ، تتحكم فى المزاج، والتحفيز، والثقة، والقدرة على التأثير. هذه الكيمياء يقوم عليها أربعة هرمونات رئيسة، تُعرف اليوم باسم:
هرمونات السعادة.. وقود القائد ومرآة قوته الشخصية
1. السيروتونين.. ثبات القائد واتزانه، وهو "مضاد الاكتئاب الطبيعي"، لكنه فى القيادة يمثل هرمون الثبات الانفعالي. ارتفاع السيروتونين ينعكس على القائد بـ:صفاء ذهنى أكبروعلاقات أكثر اتزانًا وقرارات أقل تذبذبًا، وايضا قدرة أعلى على ضبط المشاعر تحت الضغط. يرتفع السيروتونين بالتعرض للشمس، الرياضة، النوم، والعلاقات المستقرة.
2. الإندورفين.. قدرة القائد على الاحتمال: ويعد الإندورفين هو درع القائد أمام الإرهاق.
يضبط الألم الجسدى والنفسي، ويزيد من قوة التحمل، خصوصًا فى فترات الضغوط المتلاحقة، الاجتماعات، الأزمات، والعروض المهمة. يرتفع بالضحك، والحركة، والأنشطة التى تكسر الرتابة.
3. الدوبامين.. هرمون الإنجاز الذى يصنع القائد الملهم، يعتبر الدوبامين هو الشرارة التى تدفع القائد نحو الابتكار والتطوير.
ارتفاعه يرتبط مباشرةً بـ:الإنجاز، تحقيق النتائج، وضع أهداف واضحة، الشعور بالنجاح، تعزيز الثقة لدى الفريق. القائد الذى يحسن إدارة الدوبامين يعرف كيف يصنع “انتصارات صغيرة” تعزز الدافع لدى الجميع.
4. الأوكسيتوسين.. روح القيادة الإنسانية، هو "هرمون الثقة". وبدونه لا توجد قيادة مؤثرة.
الأوكسيتوسين يمنح القائد القدرة على: بناء فرق قوية، خلق بيئة عمل آمنة، تعزيز الولاء والانتماء وإدارة العلاقات بأقل قدر من الصراع. وهو سرّ القائد الذى يحرك الناس طوعًا لا قسرًا.
السعادة.. ليست رفاهية للقائد بل رصيد استراتيجي
تشير الأبحاث إلى أن القادة الذين يتمتعون بتوازن نفسى أعلى: أكثر قدرة على تفويض المهام يتخذون قرارات أدق، يحققون نتائج أكبر بخسائر أقل،يميلون إلى الاستدامة فى العطاء ويحظون بفرق متماسكة وأكثر ولاءً، وبحسب منظمة الصحة العالمية، الصحة النفسية ليست غياب المرض فقط، بل حالة من السلامة العقلية والاجتماعية، وهى شرط أساسى لقيادة فعّالة.
كيف يعزز القائد هرمونات السعادة؟
خطوات عملية وواقعية:
1. رياضة منتظمة 20 دقيقة، 3–4 مرات أسبوعيًا.
2. غذاء محفّز للهرمونات: الشوكولاتة الداكنة، الموز، الأسماك، الأناناس.
3. حضور إنسانى قوى وبناء علاقات قائمة على الثقة.
4. إنجازات صغيرة كوقود يومى للدوبامين.
5. هوايات ترفع طاقة القائد وتعيد له التوازن.
6. فواصل ذهنية ومواعيد واضحة للراحة.
الاكتئاب.. خصم خفى يهدد القيادة
يوجد أكثر من 280 مليون شخص حول العالم يعانون من الاكتئاب، وهو من أخطر ما يمكن أن يصيب قائدًا؛ لأنه: يقلل القدرة على التحليل، يضعف التركيز، يقتل الدوافع، يعوق اتخاذ القرار، يعزل القائد عن فريقه، لذلك فإن تعزيز هرمونات السعادة ليس رفاهية.. بل درع قيادى وقائيّ.
علامات القائد المتوازن نفسيًا
يبتسم بسهولة، يتعامل مع الضغوط بمرونة لا بتهور، يحترم ذاته والآخرين، يوازن بين الإنتاجية والراحة
يلهم فريقه بعلاقاته لا بصوته. وأيضا يملك شغفًا مستمرًا لا يحترق بسرعة.
الرفاه الحقيقي.. سرّ القيادة المؤثرة
السعادة ليست محطة نصل إليها، بل هى أسلوب حياة يمارسه القائد، ويحمى بها عقله وقلبه وفريقه.
وحين يدرك القائد أن التوازن النفسى والكيميائى ليس ترفًا، بل جزء من أدواته القيادية، يصبح أكثر تأثيرًا واستدامة ونجاحًا. قال تعالى: «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» (النحل: 18)
وقال سبحانه: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا..» (هود: 108)
---------------------------------------------------------
الدكتورة أميرة الحوفي/ أستاذ دكتور (بروفيسور) تمريض صحة المجتمع – جامعة أسيوط المصرية، ومعارة بجامعة جازان السعودية.
(سفير السلام الدولى باليونسكو – سفير النوايا الحسنة – أمين اللجنة الطبية بالاتحاد العربى للعلوم الإدارية واستشارات التنمية المستدامة – عضو هيئة استشارية عليا بأكاديمية أكسفورد).