الجمعة، 29 مارس 2024 11:44 ص

محمود جاد يكتب: أمريكا والحروب المقدسة وأزمة "لبن الأطفال"

محمود جاد يكتب: أمريكا والحروب المقدسة وأزمة "لبن الأطفال" محمود جاد
الأربعاء، 01 يونيو 2022 06:40 م

خريف دام، ورياح ملبدة بالغيوم.. كان الرئيس الأمريكى آنذاك جورج بوش الأبن يدرك عمن سواه أن إدارته محفوفة بمخاطر لم يعهدها الأمريكيين. بدأت ولايته بمعركة قانونية وتشكيك فى فوزه أمام غريمه الديمقراطى آل جور، ولم يطوى صفحة عامه الأول بسلام، حيث اصطدم بهجوم إرهابى هو الأول من نوعه خلف المئات ما بين قتلى ومصابين فى مشهد ظل محفوراً فى مخيلة الجميع، ودون فى كتاب التاريخ باسم 11 من سبتمبر، لتبدأ شروخ برجى التجارة العالميين فى الزحف وتتوارثها أجيال وإدارات ولتكتب سطراً أولاً فى قصة نهاية "الدولة العظمي"، خاضت فى السابق باسم حماية الأقليات والقوميات والحريات حروباً خارج الحدود، وانحسرت بمرور الوقت داخل دائرة مغلقة، تسابق خلالها الزمن لتوفير زجاجة لبن أطفال.

 

بارتباك لا تخطئه عين، تحرك بوش الأبن ليعلن عن حروب أمريكا المقدسة، وصولاً إلى خطابه الشهير الذى هدد فيه المجتمع الدولي، وقال صراحة: "إن الدول التى ليست مع الولايات المتحدة فى حربها ضد الإرهاب فهى ضدها"، ليفتح الباب أمام سلسلة من الإخفاقات، ويغادر البيت الأبيض بعد ولايتين أقحم خلالهما الجيش الأمريكى فى دوامة دروب تورا بورا فى أفغانستان فى رحلة قاسية امتدت لما يزيد على 20 عاماً، وورطه فى مستنقع من الطائفية الشرسة فى العراق.. وقبل ذلك كله، سلم الشعب الأمريكى تركة من الكراهية العابرة للحدود لاسم الولايات المتحدة.. كراهية وحدت شعوب وتورات معها خلافات تحت قاسم مشترك "أمريكا لا يمكن الوثوق بها".

 

غادر بوش المشهد وسط قناعة شبه راسخة فى الشرق الأوسط والعالمين العربى والإسلامى بأن الأصدقاء لا يسكنون البيت الأبيض.. غادر بوش المشهد، وبقيت أمريكا بمؤسساتها وإداراتها وأجهزتها الاستخباراتية التى أدركت أن الحروب التقليدية باهظة التكلفة، وأن تحقيق الأجندات والأهداف وحماية المصالح العابرة للحدود أمر قابل للتنفيذ بطرق آخرى، لتسقط مجدداً فى ولاية باراك أوباما فى صدام مع شعوب رأت سفارات واشنطن داخل بلادها دولة داخل الدولة، فما بين دعم انقلابات فى أمريكا الوسطى واللاتينية، والرهان على الإسلام السياسى فى ثورات ما عرف بالربيع العربي.. تباينت الطرق واختلفت السبل، إلا أن الحصيلة كانت فشلا متراكما.. فشل كان مسار جدلاً محتدماً فى الداخل الأمريكى خلف جدران الكونجرس، وعلى الشاشات وعناوين الصحف، وكان السؤال واحداً، عجزت إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما فى اجابته : هل كان دعم الإسلام السياسى بكل ما حملته جماعاته وكياناته من أفكاراً تكفيرية ودعوات للعنف واستهداف الآخر، قراراً أمريكياً صائباً ؟

 

سؤال الرأى العام الأمريكى الصعب، الذى فشل باراك أوباما فى اجابته، دفعت وزيرة الخارجية الأمريكية والسياسية الديمقراطية الشهيرة هيلارى كلينتون ثمنه غالياً بخسارة مدوية أمام دونالد ترامب القادم من خارج دوائر السياسة، والذى لم يلتفت له كثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها، ولم تنصفه استطلاعات الرأى أو مراكز صنع القرار ومؤسسات الفكر الأمريكية التى رفعت سقف الرهان على كلينتون، ليصطدم الجميع بفوزه برئاسة الولايات المتحدة، ليكشف ترامب على مدار 4 سنوات كاملة زيف الشعارات وبطلان الادعاءات التى طالما رددها الغرب عن الديمقراطية الأمريكية، ويزيل عن تمثال الحرية ستاراً كان يخفى ورائه ما تسلل من شروخ عكست أمراض إمبراطورية شاخت على قمة المجتمع الدولي.

 

فى ولايته الشائكة، خاض ترامب معارك مدوية فى الداخل كان أطرافها النخبة السياسة والإعلام. ومع احتدام الخلافات وحروب الداخل، انهارت بوتيرة متسارعة صورة "الحلم الأمريكي"، ليكتشف الرأى العام العالمى أن أمريكا ـ شأنها شأن غيرها ـ بلداً لديه مشكلات، ويعانى مجتمعها من صراعات طبقية وآخرى قائمة على أسس عرقية، كما أنها ليست بمعزل عن الفساد المالى والسياسي، وتعرف كغيرها من دول العالم مصطلحات مثل "الدولة العميقة"، و"المال السياسي" و"الرشاوى الانتخابية"، وتعانى كغيرها من الدول انحرافات وتجاوزات فى الأجهزة الأمنية.. وأنها وأمام الأزمات الكبرى ترتبك، وهو ما بدا واضحاً بعدما زار وباء كورونا البلاد، وفتح الباب أمام فوضى لم تخلو من بطء اتخاذ القرار، وتضارب بين الأوامر الفيدرالية وقرارات الولايات، ونقصاً كان واضحاً فى اللوجستيات دفع البيت الأبيض لإرغام مصانع سيارات ـ فى بلد الاقتصاد الحر ـ على تحويل نشاطها لإنتاج أجهزة تنفس صناعى وأقنعة طبية !

 

ودع ترامب البيت الأبيض، رافضاً الاعتراف بالهزيمة، ومحتفظاً بحق دستورى فى الترشح لولاية ثانية، بعدما أفلت من محاولات عزله عبر الكونجرس فى مشهد لم يعهده الأمريكيين فى تاريخهم، ودع ترامب المشهد ـ مؤقتا ـ متحصناً بأصوات ما يزيد على 74 مليون أمريكى حصيلة التصويت الشعبى، ليتسلم إدارة البلاد غريمه العجوز جو بايدن، الذى رفع فوزه سقف التوقعات لدى كثيرين من أن خبراته فى العمل العام الممتدة منذ سبعينيات القرن الماضى قادرة على حل مشكلات أمريكا، وترميم ما تصدع فى أركانها من شروخ .. إلا أن الحسابات كشفت سريعاً بطلان التقديرات، بتراجع نسب تأييده لأدنى مستوى لها بحلول مايو الماضى، بواقع 39% فقط، وفق استطلاع أجرته وكالة الاسوشيتدبرس.

 

 

يوماً تلو الآخر، رسخ بايدن قناعات بمقدمتها أن أمريكا "دولة عادية"، وأن للإمبراطوريات والدول الكبرى أمراض بعضها يمكن الشفاء منه، وآخر يفتح طرقاً ممهدة أمام الموت البطىء، فعلى مدار ولايته الممتدة عرفت أمريكا أعنف موجات قتل وعنف داخلى بين الأمريكيين وسط بيروقراطية وعجز عن اجراء تعديل تشريعى يفرض قيود على حيازة السلاح فى يد المراهقين الأمريكيين. وعلى مدار ولايته سجلت البلاد أعلى معدلات تضخم منذ 40 عاماً كاملة، وطال الركود الأسواق الأمريكية وسط نقص حاد فى سلع أساسية كان آخرها أزمة ألبان الأطفال، والتى تحولت إلى كابوس مكتمل الأركان قاد الأمريكيات للتبرع لبنوك الألبان، أملاً فى انقاذ صغار، باتوا وحدهم، يدفعون ثمن فشل متوارث بين الإدارات، وارتباك متجذر داخل المؤسسات، وقبل ذلك كله، ازدواجية معايير قادت أمريكا قبل 22 عاماً لإعلان حروب كبدتها مئات التريليونات من الدولارات وانتزعت من ميزانيتها الحالية 40 مليار دولار لدعم أوكرانيا، لكنها فشلت فى نهاية المطاف فى توفير ابسط احتياجات أسرة أمريكية، لم تكترث يوماً لاعتبارات العيش داخل حدود "دولة كبري"، ولم تهتم ابداً بالانتماء لبلد ينصب نفسه قائداً فى معسكر حماية مصالح أوكرانيا وأمنها.

 

 

 

 


print